Consultation Image

الإستشارة 11/05/2025

أنا أب مسلم، أحب أن أربي أولادي على الفهم الصحيح للدين، وقد سألني أحد أطفالي الصغار سؤالًا حيرني: "يا أبي، لماذا نتعبد الله بالحج، وهو عبادة فيها طواف حول حجر (الكعبة)، وتقبيل حجر (الحجر الأسود)، والسعي بين جبلين، والوقوف على حجر، ورمي حجارة؟ ألا يشبه هذا ما كان يفعله المشركون من عبادة الأصنام والحجارة؟ أليس هذا قريبًا من الشـرك؟ كيف نجيب عن هذا السؤال؟ وهل لهذا التعبد من حكمة عقلية، ومعنى شرعي؟".

الإجابة 11/05/2025

الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وبعد:

 

فلا بد من الإقرار ابتداءً بأنه لا حياء في طلب المعرفة، ولا غضب من الاستفسار: لأن ديننا جاء لبناء عقول الناس لا لقهرها، بل الإسلام يُحاور ويقنع ويشرح، ولا يطلب من أتباعه عبادة عمياء.

 

وللإجابة التفصيلية عمّا سألت عنه وما له علاقة به، اسمح لي أضع ردي في نقاط محددة، وذلك على النّحو التالي:

 

1) بيان الفرق الجوهري بين طواف المشركين وعبادة المسلمين: فالمشركون كانوا يعبدون الأحجار لذاتها، ويظنون أنها تضر وتنفع وتخلق وتشفع. أما المسلم فهو يطوف بالحجر لأمر الله، لا بذاته، ويعلم يقينًا أن الحجر لا يضـرّ ولا ينفع، وإنما يعبد الله الذي أمر بالطواف.. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو يُقبّل الحجر الأسود: "والله إني لأعلم أنك حجر، لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله ﷺ يُقبلك ما قبّلتك".. وهنا يتعلم الأطفال والكبار: أن تعظيمنا للكعبة والحجر الأسود والمشاعر ليس لأجلها، بل لأمر الله بها، وطاعته سبحانه في شعائره.

 

2) لماذا أمرنا الله بالطواف والسعي ورمي الجمار؟ لأن الحج مدرسة طاعة وتسليم، فيها يختبر الله صدق الإيمان، هل سنُطيع ولو لم نفهم كل الحكمة؟ مثلما أمر الله إبراهيم بذبح ابنه ثم فداه، لم يكن الهدف الذبح، بل الامتثال. فالحج ليس طوافًا حول حجر، بل هو دروس إيمانية رمزية:

 

* الطواف بالكعبة: إعلان أن حياتك تدور حول طاعة الله وحده.

 

* تقبيل الحجر: تعبير عن الحب والطاعة، مثلما نقبّل رأس الأم احترامًا لا عبادة.

 

* السعي بين الصفا والمروة: تذكير بموقف أُم عظيمة (هاجر) تسعى خلف الماء بثقة بالله، فأجرى الله لها زمزم.

 

* رمي الجمار: رمز لرفض وسوسة الشيطان؛ فالحجاج يرمون الشيطان لا الحجر.

 

3) حكمة الحج من منظور العقل والتاريخ: فالحج ليس تقليدًا جاهليًّا، بل هو إحياءٌ لملة إبراهيم الخليل، كما قال الله: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا...} (الحج: 26)، فكان إبراهيم عليه السلام أول من رفع قواعد الكعبة بأمر الله، والطواف والسعي والذبح والرمي كلها من شعائر توحيدية قديمة، جاء المشركون وحرّفوها، فجاء الإسلام فأصلحها وأعادها إلى أصلها النقي، والعقل السليم يدرك أن الفرق بين الطاعة لله والعبادة للحجر كالفرق بين نور الشمس وظلمة الليل.

 

4) هل في الحج تقليد أعمى؟ لا، بل الحج هو من أعمق العبادات التي تُربّي النفس على الخضوع لأمر الله ولو خالف هوى النفس والعقل البشري القاصر، تمامًا كما يفهم الطفل أن تناول الدواء المرّ للشفاء وإن لم يعرف كل مكوناته، كذلك المؤمن يقبل أوامر الله ثقة بحكمته لا جهلًا بها.

 

5) كيف أشرح هذا للأطفال بطريقة مبسطة؟ أقول: اسأل ابنك: هل تُحب والدك لأنه يعطيك الحلوى فقط؟ أم لأنك تحبه وتطيعه لأنه أبوك؟ كذلك نحن نطيع الله لأنه ربنا، لا لأننا نفهم كل حكمته. قل له: الله أمرنا أن نطوف لأنه يريد أن نتعلم أن الحياة كلها طواف حول طاعته، لا حول رغباتنا، ونرمي الجمرات لأنه يريدنا أن نتعلم كيف نطرد الشيطان من حياتنا، ونُقبّل الحجر لأن رسولنا فعل ذلك، فنحن نحبه ونُطيعه.

 

وإجمالا في ختام رسالتي إليك:

 

اعلم بأن الحج عبادة لا علاقة لها بعبادة الأصنام، بل هو خضوع لله، وطاعة لأوامره، وإحياء لسنة نبي الله إبراهيم عليه السلام، وأن ما كان عند الجاهليين من طقوس فاسدة أبطله الإسلام، وأبقى على الطاعات الصحيحة، فطهّر المشاعر من الشرك، وجعلها خالصة لله، كما أن الفرق بين عبادة الله بالحجر وعبادة الحجر نفسه هو كبير جدًّا، وهو الذي يميز التوحيد عن الشرك، فضلا عن كون أمر الله يُنفّذ، ولو لم تُدركه العقول؛ لأننا نعبد الله بحب وطاعة، لا بتمرد وتساؤل لا ينتهي.

 

وأسأل الله تعالى أن يعلمنا وإياكم ما ينفعنا ويديم علينا وعليكم نعمة الفهم والوعي الصحيح .. اللهم آمين...

الرابط المختصر :