Consultation Image

الإستشارة 05/05/2025

هل التدخين الآن مسألة خلافية، وبالتالي لا يحق لنا أن نأمر المدخنين بترك التدخين خاصة في الأماكن العامة ووسائل المواصلات ، أم أنها محرمة وبالتالي من حقنا أن نمنع المدخن من التحين خاصة أنه يترتبت على ذلك ضرر علينا وعلى كل من يحيط به

الإجابة 05/05/2025

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وآله وصحبه ومن والاه، وبعد:

 

فقد اختلف الفقهاء قديمًا حول حكم التدخين، واختلافهم ليس راجعًا إلى الأدلة بقدر ما هو راجع إلى عدم معرفة الأضرار الناتجة عن التدخين التي تشمل النفس والمال، وتعود بالضرر على الفرد والأسرة والمجتمع، ومن ثم اتفق جمهور الفقهاء المعاصرين والمجامع الفقهية ودور الإفتاء على التحريم عندما أثبتت البحوث الطبية المعاصرة خطورة التدخين على الفرد والمجتمع.

 

يقول فضيلة الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي – رحمه الله – في فتوى مطولة أشبه بالبحث العلمي الموثق ننقل منها مقدمتها:

 

قد ظهر هذا النبات المعروف الذي يطلق عليه اسم "الدخان" أو "التبغ" أو "التمباك" أو "التتن"، في آخر القرن العاشر الهجري، وبدأ استعماله يشيع بين الناس؛ مما أوجب على علماء ذلك العصر أن يتكلموا في بيان حكمه الشرعي.

 

ونظرًا لحداثته وعدم وجود حكم سابق فيه للفقهاء المجتهدين، ولا من لحقهم من أهل التخريج والترجيح في المذاهب، وعدم تصورهم لحقيقته ونتائجه تصورًا كاملًا مبنيًا على دراسة علمية صحيحة؛ اختلفوا فيه اختلافًا بيِّنًا فمنهم من ذهب إلى حرمته، ومنهم من أفتى بكراهته، ومنهم من قال بإباحته، ومنهم من توقف فيه وسكت عن البحث عنه، وكل أهل مذهب من المذاهب الأربعة -السنية- فيهم من حرّمه، وفيهم من كرهه، وفيهم من أباحه؛ ولهذا لا نستطيع أن ننسب إلى مذهب القول بإباحة أو تحريم أو كراهة.

 

ويبدو لي أن الخلاف بين علماء المذاهب عند ظهور الدخان وشيوع تعاطيه واختلافهم في إصدار حكم شرعي في استعماله؛ ليس منشؤه في الغالب اختلاف الأدلة؛ بل الاختلاف في تحقيق المناط، فمنهم من أثبت للتدخين عدة منافع في زعمه، ومنهم من أثبت له مضار قليلة تقابلها منافع موازية لها، ومنهم من لم يثبت له أية منافع، ولكن نفى عنه الضرر وهكذا، ومعنى هذا أنهم لو تأكدوا من وجود الضرر في هذا الشيء لحرّموه بلا جدال.

 

وهنا نقول: إن إثبات الضرر البدني أو نفيه في "الدخان" ومثله مما يتعاطى ليس من شأن علماء الفقه، بل من شأن علماء الطب والتحليل، فهم الذين يُسألون هنا؛ لأنهم أهل العلم والخبرة.. قال تعالى: ﴿فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا﴾ (الفرقان: 59)، وقال: ﴿وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ﴾ (فاطر: 14).

 

أما علماء الطب والتحليل فقد قالوا كلمتهم في بيان آثار التدخين الضارة على البدن بوجه عام، وعلى الرئتين والجهاز التنفسي بوجه خاص، وما يؤدي إليه من الإصابة بسرطان الرئة مما جعل العالم كله في السنوات الأخيرة يتنادى بوجوب التحذير من التدخين.

 

وفي عصرنا ينبغي أن يتفق العلماء على الحكم، وذلك أن حكم الفقيه هنا يُبنى على رأي الطبيب، فإذا قال الطبيب إن هذه الآفة -التدخين- ضارة بالإنسان فلا بد أن يقول الفقيه هذه حرام؛ لأن كل ما يضر بصحة الإنسان يجب أن يُحرَّم شرعًا، على أن من أضرار التدخين ما لا يحتاج إثباته إلى طبيب اختصاصي ولا إلى محلل كيماوي، حيث يتساوى في معرفته عموم الناس من مثقفين وأميين.

 

وجاء في فتوى لمجمع البحوث الإسلامية في الأزهر:

 

إن البحوث الطبية أثبتت أن تعاطى الدخان بكل أنواعه له أضرار جسيمة ومفاسد كثيرة منها الإضرار بالصحة العامة، وإضاعة المال وإهداره في غير وجهه، وكل ما أدى إلى ذلك، فهو حرام زراعته وصناعته، وتعاطيه والتجارة فيه.

 

وأضاف المجمع فى رده: قال تعالى: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}) البقرة/195)، وقال سبحانه: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ...} (المائدة/4)، والدخان ليس من الطيبات بل هو خبيث الطعم والرائحة، فهو حرام، قال تعالى: {... وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ...} (الأعراف/157)، والدخان باتفاق خبيث، وقال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ...}، ويقول النبى ﷺ: (لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ) سنن ابن ماجة.

 

وجاء في فتوى مجمع الفقه بالسودان:

 

إن صانع الدخان وبائعه ومتعاطيه لا شك أنه يضر نفسه ويضر غيره، وفى الحديث الصحيح أن النبى ﷺ قال: (إِنَّ اللَّهَ كَرِهَ لَكُمْ ثَلاَثًا قِيلَ وَقَالَ وَإِضَاعَةَ الْمَالِ وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ) رواه البخارى، وبناءً عليه: فإن تعاطى الدخان، بجميع أنواعه وترويجه والإتجار فيه، حرام شرعًا وعقلاً.

 

وأصدر مجمع الفقه الإسلامي فتوى حرم بموجها استعمال التبغ بكل أنواعه لثبوت ضرره على الإنسان ومن حوله باتفاق أهل المعرفة، وجاءت الفتوى بناءً على مطالبة أعضاء المجلس التشريعي لولاية الخرطوم للمجمع باستصدار فتوى شرعية حول التبغ ومشروع قانون مكافحته الذي أجازه المجلس في دورته السابقة ورهن التوقيع عليه باستصدار فتوى شرعية بشأنه، وأشارت الفتوى التي تسلمها المجلس إلى أن مشروع القانون يكافح التبغ ويحد من استعماله وآثاره الضارة، وقال إنه موافق للشريعة الإسلامية ومقصودها لأن القانون يعمل على تقليل مفاسد التبغ ومضاره.

 

وقالت الفتوى إن المجمع بعد أن درس مشروع القانون أكد على حرمة التبغ بكل أنواعه وطرق استعماله لثبوت ضرره على الإنسان ومن حوله باتفاق أهل المعرفة ولقوله تعالى: {ويحرم عليهم الخبائث} (الأعراف: 157)، وقوله ﷺ: (لا ضرر ولا ضرار)، وللقاعدة الفقهية المتفق عليها (الضرر يزال)، دعا المجمع الجهات المعنية كافة للعمل على منعه وحظره استعمالاً واستيرادًا وتصنيعًا وزراعة.

 

وجاء في فتوى دار الإفتاء بالأردن:

 

رأى المجلس أن التبغ (الدخان) والتمباك لم يكن معروفًا في عهد رسول الله ﷺ، ولا في عهد صحابته ـ رضي الله عنهم ـ، ولا في عهد أئمة المذاهب المجتهدين، وإنما عُرف التبغ في القرن الحادي عشر الهجري، ولعدم وجود نص شرعي بتحريمه، ولكونه لا يسكر، فقد اختلف العلماء في حكمه ما بين الإباحة والكراهة والتحريم، وذلك حسب نظرتهم إلى الضرر الذي يحدثه.

 

هذا وقد أثبتت الدراسات بأن التدخين أضراره كثيرة على الصحة والبيئة والمجتمع والاقتصاد، فهو يحتوي على مادة النيكوتين السامة، ونسبة المصابين بالأمراض وخاصة مرض السرطان بسبب التدخين عالية. ويتعدى ضرره إلى غير المدخنين المتواجدين في الأماكن التي يشرب فيها الدخان أو التمباك، حيث إنهم يستنشقون الدخان ويدخل إلى أجسامهم مع الهواء الذي يتنفسونه، ويتأذون من رائحته الكريهة، وضرره على الاقتصاد كبير لما فيه من الإسراف والتبذير، لقوله تعالى: {وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} (الأنعام/141)، وقال أيضًا: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} (الإسراء/27)، ففي الأردن وحده كما أفادت المصادر المعنية زادت الخسائر جراء التدخين عن مليار وخمسمائة مليون دينار سنويًّا.

 

ونظراً لذلك فإن مجلس الإفتاء يرى أن التدخين مما عمت به البلوى. ويتأكد تحريمه على كل شخص ثبت بأن التدخين يؤدي إلى إلحاق ضرر كبير به، أو يؤخر في شفائه قال الله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} (النساء/29). كما يتأكد التحريم في حق كل شخص ينفق ما لديه من مال على التدخين ويحرم نفسه ومن هو مكلف بإعالتهم مما هو ضروري لمعيشتهم كالطعام والشراب واللباس وأجرة السكن والدواء والتعليم لقوله ﷺ: (كفى بالمرء إثمًا أن يضيع من يعول).

 

كما يتأكد تحريم الدخان في الأماكن العامة، كالمساجد والمستشفيات والحافلات والسيارات والمدارس والأماكن التي يتواجد فيها غير المدخنين؛ لأنه يحرم على المسلم أن يؤذي ويضر غيره قال عليه السلام: (لا ضرر ولا ضرار) وقال أيضًا: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده)، ونظرًا للأضرار الجسمية الآنفة الذكر التي تلحق بالصحة والبيئة والمجتمع والاقتصاد نتيجة التدخين: فإن مجلس الإفتاء يرى وجوب مكافحة التدخين بالوسائل المتاحة، وتحريم الترويج والإعلانات التشجيعية للتدخين.

 

ولذلك كله فإن مجلس الإفتاء ينصح بعدم بيع الدخان والتمباك والأرجيلة وتأجير المحلات التجارية، سواء لغايات البيع أو الاستخدام والشرب.

 

والله تعالى أعلى وأعلم

الرابط المختصر :