Consultation Image

الإستشارة
  • المستشار : أ. فتحي عبد الستار
  • القسم : إيمانية
  • التقييم :
  • عدد المشاهدات : eye 408
  • رقم الاستشارة : 1521
07/04/2025

السلام عليكم، كيف يجمع المسلم غير المقاتل بين الدعاء: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ شَهَادَةً فِي سَبِيلِكَ» وبين الخوف على الأهل والأولاد من الضياع والألم إن حصل له شيء، إذا جعله هذا الخوف بتوقف عن دعاء الشهادة ويكتفي بالدعاء: اللهم ارزقنا حسن الخاتمة؟

هل هذا أمر مذموم؟

لم أرَ مصادر في الإنترنت ناقشت هذا الموضوع.

الإجابة 07/04/2025

أخي الكريم، مرحبًا بك، وأشكر لك تواصلك معنا، وأسأل الله لك التوفيق في الدنيا والآخرة، وأن يُلهمك رشدك، ويشرح صدرك، ويجعل لك من كل همٍّ فرجًا، ومن كل ضيقٍ مخرجًا، وبعد...

 

فإن مما يدلُّ على حياة القلب وعمق الإيمان، أن يقف الإنسان عند مواطن التعارض الظاهري في نفسه بين طاعةٍ يحبها الله، وخشيةٍ بشريةٍ فطرية تسكن كيانه، فيسأل: كيف أجمع بين هذا وذاك؟ كيف أكون عبدًا لله بكلِّيتي، دون أن أتنكَّر لمشاعري الإنسانية، ومخاوفي على من أُحب؟

 

وسؤالك هذا يحتاج إلى تأمل عميق، وإعادة ترتيب للأولويات، والموازنة بينها، وهذا ما سأحاوله معك في السطور التالية.

 

الجمع بين طلب الشهادة والخوف على الأهل:

 

أما دعاؤك «اللَّهُمَّ إني أسألك شهادةً في سبيلك» فهو دعاء عظيم، وقد ورد عن خير الخلق ﷺ أنه قال: «من سأل الله الشهادةَ بصدقٍ بلَّغه الله منازلَ الشهداءِ وإن مات على فراشه» [رواه مسلم].

 

فهذا الدعاء فيه تعبير عن غاية الشوق إلى الله، وإيثار مرضاته، والتعالي على التعلقات الأرضية، وفيه إيمانٌ عميقٌ بأن الشهادة ليست موتًا ينهي الحياة؛ بل هي انتقال إلى حياةٍ أعلى: ﴿ولا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ ويَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [آل عمران: 169 و170].

 

وفي المقابل، فإن خوفك على أهلك وأولادك من بعدك، هو شعور بَشَريٌّ فطري، لا يُذَمُّ، وقد أثبته القرآن وراعى طبيعته، بل وجَّه له بما لا يناقض الإيمان؛ ففي قوله تعالى: ﴿وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا﴾ [النساء: 9]، إشارة إلى أن الله يعلم ما في القلوب من خشية على الذرية؛ لكنه يُوجه هذه المشاعر لتكون دافعًا للتقوى والصدق، لا مانعًا عن العبادة والطموح الإيماني.

 

فالمؤمن يمكنه أن يدعو الله بالشهادة صدقًا، ويُظهر لربه أنه يحب أن يموت في سبيله، وفي الوقت ذاته، يعقِّب على هذا الدعاء بتسليمٍ لله في مصير من يخلفه من أهله، فيقول: «اللهم إن متُّ فأنت خليفتي في أهلي»، كما كان من دعاء النبي ﷺ حين يخرج في سفر: «اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ وَالخَلِيفَةُ فِي الأَهْلِ» [رواه مسلم].

 

هل ترك الدعاء بالشهادة خوفًا على الأهل مذموم؟

 

إن ترك الدعاء بالشهادة بسبب الخوف على الأهل ليس في ذاته أمرًا مذمومًا؛ لكنَّه نقص عن الكمال، لا ينقض الإيمان، ولا يُذم فاعله؛ لكنه يُحرم نفسه من مقامٍ عالٍ من التوكل والثقة واليقين.

 

وإن دعاءك «اللهم ارزقنا حسن الخاتمة» دعاءٌ عظيمٌ أيضًا؛ لكنه لا يتعارض مع دعاء الشهادة؛ بل قد تكون الشهادة إحدى صور حسن الخاتمة، فهما دعاءان يتكاملان لا يتنافيان.

 

والعارف بالله هو من يُربِّي نفسه على التسليم لمشيئة الله، ويُكثر من قول إبراهيم عليه السلام: ﴿فَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ﴾ [البقرة: 128]، ويقول كما قال الصالحون: ﴿وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ﴾ [غافر: 44]، ولا يجعل خوفه على الدنيا حجابًا عن طلب الآخرة.

 

كيف نوازن بين المحبتين؟

 

لعل السر في هذا التوتر النفسي الذي ذكرته، أنك تعيش صراعًا بين محبة الله ومحبة الأهل؛ لكن الحقيقة أن محبة الله لا تنفي محبة الأهل، بل تُنظمها، وتوجِّهها، وتربِّيها على الثقة بالله.

 

ولك في إبراهيم -عليه السلام- أسوة، حين قدَّم ابنه إسماعيل قربانًا لله طاعةً له، ليس كراهية له؛ بل لصدق محبته لربه، فكان الجزاء أن حفظ الله الولد، وخلَّد الذِّكر، وجعل له الفداء: ﴿وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ﴾ [الصافات: 107].

 

فمن صدق مع الله في محبته، وتوكل عليه، كفاه الله ما يخاف، ﴿وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾ [الطلاق: 3].

 

وختامًا -أخي الحبيب- لا تجعل خوفك على أهلك مانعًا من طلب الكمال؛ بل سل الله بصدق، وأضمر التوكل، وردد بلسان الافتقار: «اللهم اجعلني ممن يحب لقاءك»، و«اللهم إن وفَّيت أجلي فأنت ربي وربُّ أهلي، فاحفظهم بحفظك، واكلأهم بعينك التي لا تنام».

 

واعلم أن الدعاء بالشهادة ليس طلبًا للموت؛ بل هو تهيؤ للقاء، واستعداد للحظةٍ قد تكون أكرم اللحظات عند الله.

 

ولا خير في حياة نطلبها على حساب حُب الله، ولا راحة في نجاةٍ تكون على حساب ترك مقامٍ عالٍ في الجنة.

 

فاجمع قلبك، وتوجَّه لربِّك، وسلْهُ أن يختار لك ما فيه الخير، فإنك لا تدري وهو يعلم، ولا تملك وهو يُدَبِّر. ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾ [البقرة: 216].

 

نسأل الله أن يُرزقك صدق التوكل، وصفاء النية، وأن يُلحقك بالصالحين، ويحفظ لك أهلك، ويبارك لك فيهم في حياتك وبعد مماتك، ويرزقك حسن الخاتمة على الوجه الذي يُرضيه عنك. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

الرابط المختصر :