الإستشارة - المستشار : د. أميمة السيد
- القسم : تربوية
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
97 - رقم الاستشارة : 1670
17/04/2025
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أنا أم لرضيعة عمرها الآن 11 شهرًا، وهي طفلتي الأولى، وأكتب إليك دكتورتنا بعد أن نفد صبري وازداد قلقي.
منذ حوالي الشهرين بدأت ألاحظ على طفلتي سلوكًا غريبًا، وهو أنها تضرب رأسها بيديها أو بأي شيء تجده أمامها عندما تُمنع من شيء، أو إذا أخذتُ منها لعبة، أو حتى حين لا أستجيب لها فورًا إذا بكت. أحيانًا تضرب الأرض برأسها إذا كانت جالسة أو تزحف. في البداية ظننت أن الأمر مؤقت، لكن السلوك يتكرر يوميًا تقريبًا، وقد بدأ يُخيفني بشدة!
أنا لا أصرخ في وجهها أبدًا، وأحاول تهدئتها بالعناق والكلام الهادئ، لكنها تصرّ على تكرار هذا السلوك، حتى أمام الغرباء!
البعض قال لي: "سيبيها تتعلم، متدّيهاش اللي عايزاه علشان متتعودش"، والبعض الآخر قال: "البنت دي عنيدة، حتتعبك"، وأنا في حيرة شديدة.
هل هذا طبيعي في هذا العمر؟ وهل من الممكن أن يكون هذا مؤشرًا على مشكلة نفسية أو عصبية؟ وكيف أتصرف حين تفعل ذلك؟ هل أتناساها؟ أم أحضنها؟ أم أعاقبها؟
أشعر أني فشلت حتى في تهدئة رضيعة! أرجو الرد والنصح، فأنا أريد أن أربيها بطريقة صحيحة نفسياً وتربوياً، لكني لا أجد من يدلني بشكل علمي وحنون..فمن متابعتى لحضرتك أثق أن لديك الحل. وجزاكِ الله خيرًا.
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته،
ابنتي الغالية، والأم الرقيقة الجديدة..
وصولكِ إلينا بهذا القلق المحمود هو أول خطوة واعية في التربية الناضجة، فبارك الله لكِ في أمومتكِ، وجعلها لكِ طريقًا إلى الجنة.
وبعد شكري لله تعالى، أشكرك لثقتك الغالية في شخصي المتواضع وفي موقعنا للاستشارات.
أود أن أطمئنكِ بدايةً بأن ما تصفينه من سلوك رضيعتكِ، يُعد شائعًا نسبيًّا بين الأطفال في هذه المرحلة العمرية، لكنه بالفعل نادر في حدّته كما ذكرتِ، ويحتاج إلى وعي خاص في التعامل.
دعيني أشرح لكِ الأمر تربويًّا ونفسيًّا:
أولًا: فهم السلوك – ماذا يعني أن تضرب رضيعة رأسها؟
ما يحدث هو شكل من أشكال التعبير الانفعالي غير الناضج، نُسميه في علم النفس التربوي: "Self-injurious behavior"، أي "السلوك المؤذي للنفس"، وغالبًا ما يظهر عند بعض الرضّع حين يعجزون عن التعبير عن احتياجاتهم أو رغباتهم بطريقة مفهومة.
في هذا العمر تحديدًا (من 9 إلى 18 شهرًا)، يبدأ الطفل في استكشاف مشاعر الغضب والإحباط، لكنه لم يتعلّم بعد كيف يُدير هذه المشاعر، فيلجأ إلى السلوك البدائي غير اللفظي، مثل الضرب، الصراخ، أو إلقاء نفسه على الأرض. وفي بعض الحالات، يظهر سلوك "ضرب الرأس" كردّ فعل غريزي يُعبّر عن الإحباط.
فهي لا تؤذي نفسها عمدًا كما يفعل الكبار، بل تُعبّر عن انفعالٍ لم تتعلم بعد كيف تُسميه أو تضبطه. وهذا السلوك لا يدلّ على اضطراب نفسي بالضرورة، بل يدلّ على ضعف مهارات تنظيم الانفعال، وهي مهارة قابلة للتعلُّم تدريجيًّا مع الوقت والتوجيه.
ثانيًا: تسألينني: هل عليَّ القلق؟ ومتى يصبح الأمر خطرًا؟
وأجيبك بأن: الأمر لا يحتاج إلى قلق مفرط إذا كان:
- يحدث فقط عند الغضب أو الانزعاج.
- لا يترك آثارًا جسدية مؤذية.
- لا يصاحبه سلوكيات غريبة أخرى كعدم التواصل البصري، أو انعدام الاستجابة للأصوات.
لكن إن استمر السلوك بشكل متكرر، حتى في الأوقات الهادئة، أو كان مصحوبًا بانغلاق على الذات، أو تأخر واضح في التواصل، فعندها نلجأ وفورًا للتقييم الطبي السلوكي (Developmental screening).
لكن هنا اطمئني حبيبتي، فمن وصفك، لا يبدو أن الطفلة تعاني من اضطراب، بل من حاجة ماسة إلى ضبط المشاعر بالتدريب والدعم العاطفي.
ثالثًا: وعن كيف تتصرفين؟ إليكِ خطوات علمية وعملية:
١- ابقِ هادئة..
فدائمًا طفلتكِ تراقب وجهكِ أكثر مما تتخيلين. فكلما انزعجتِ أنتِ، ازداد تمسكها بالسلوك. حافظي على ما نُسميه "Calm presence"، أي "الحضور الهادئ"، فهو أداة فعالة في تعديل السلوك عند الرُّضّع.
٢- احتضنيها فورًا ولكن دون مكافأتها على السلوك
عندما تبدأ في ضرب رأسها، اقتربي بلطف، وامسكي يديها برفق، واحتضنيها قائلة: "أنا معكِ، أرى أنكِ غاضبة، ولكننا لا نؤذي أنفسنا.. ماما تحبكِ وتفهمكِ"، هذا يُسمى "Name it to tame it" أي "سمّي المشاعر لتهدأ"؛ وهو أسلوب فعّال لتدريب الدماغ على ضبط الانفعال.
٣- استخدمي بدائل سلوكية بسيطة..
كأن توجّهي يدها لتضرب وسادة مثلًا، أو أعطيها لعبة تصدر صوتًا، لتمارس التنفيس بطريقة آمنة، وهذا يُسمى "التوجيه الآمن".
٤- ثبّتي روتينًا يوميًّا هادئًا ومنظّمًا..
الطفل الذي يشعر بالأمان والثبات، يقلّ لديه السلوك العنيف أو الفوضوي.
٥- لا تستجيبي للبكاء الغاضب بإعطاء ما تريده فورًا
وإلا تعلّمت الطفلة أن السلوك المؤذي هو وسيلة للحصول على ما تريد، وهذا ما نسميه "Negative reinforcement"، أي التعزيز السلبي للسلوك الخاطئ.
٦- اقرئي لها، وتواصلي بالعين، وغني معها..
كل هذه الأنشطة تطوّر لديها مهارات التواصل، وتُشبع حاجتها العاطفية، فتقل سلوكيات الغضب لديها.
عزيزتي الأم الصغيرة.. ديننا الحنيف يدعو إلى الرحمة والرفق، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "ما كان الرفق في شيء إلا زانه، وما نُزع من شيء إلا شانه"؛ فرفقكِ باب التربية، وهو أقوى من أي عقاب.
* همسة أخيرة لصغيرتي الأم:
أنتِ لم تفشلي، بل أنتِ تنجحين الآن لأنكِ تسعين إلى الفهم والتغيير.
التربية ليست أن نمنع السلوك الخاطئ فقط، بل أن نبني من الداخل طفلاً يعرف كيف يتعامل مع مشاعره.
وأدعوك لديمومة الدعاء والاحتساب والصبر؛ فالصبر في التربية ليس ضعفًا، بل فِطنةٌ ورحمة.
مع الأيام، ستتعلمين وستخطئين وتُصيبين، لكنكِ في كل الأحوال.. أم رائعة في طور التشكُّل.