الإستشارة - المستشار : أ. فتحي عبد الستار
- القسم : إيمانية
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
48 - رقم الاستشارة : 1827
04/05/2025
أنا شاب نشأت في بيت متدين، وأحاول في هذه الفترة أن أستعيد علاقتي بالله بعد فترات من الفتور والبعد، والحمد لله بدأت ألتزم أكثر بالصلاة وقراءة القرآن وأجتهد في ضبط سلوكي ونيَّاتي، لكنني أجد شيئًا داخليًّا ما زال فارغًا، وكأن العلاقة بيني وبين الله لم تكتمل بعد.
مؤخرًا صرت أقرأ كثيرًا عن "أسماء الله الحسنى"، ولفتني الحديث النبوي الشريف: (إن لله تسعةً وتسعين اسمًا، مَن أحصاها دخل الجنة)، وهذا جعلني أشعر بأن لها سرًّا عظيمًا في الإيمان، لكني لا أعرف كيف أُحصي هذه الأسماء عمليًا، ولا كيف أُدخلها في وجداني وسلوكي.
أريد أن أعيش معاني أسماء الله فعلاً، لا فقط أرددها، لكنني أجد صعوبة في ربطها بظروفي اليومية وهمومي الشخصية.
فكيف يمكنني أن أجعل معاني أسماء الله الحسنى حيّة في قلبي، ومصدرًا للسَّكينة واليقين في حياتي؟
وهل هناك طرق عملية أو تربوية تساعدني في تذوّق هذه المعاني وجعلها مفتاحًا لتعميق الإيمان؟
مرحبًا بك أيها الأخ الكريم، وجزاك الله خيرًا على تواصلك معنا، وبارك فيك على صدقك وشفافيتك في طرح سؤالك. وأسأل الله أن يجعل خطاك هذه التي تخطوها نحوه سببًا لهدايتك وسكينة قلبك، وأن يفتح لك أبواب القرب منه فتحًا مبينًا، ويذيقك حلاوة الإيمان التي لا يعدلها شيء في هذه الدنيا، وبعد...
فما أجمل ما عبَّرت به في سؤالك، من شوقٍ لربك، ومن ألمٍ داخلي تبحث له عن دواء، ومن توقٍ لعلاقةٍ حيَّة بالله تملأ فراغ القلب وتسكب الطمأنينة في الوجدان. هذا -والله- من علامات الصحوة الصادقة، والبدايات المباركة، التي تسبق غالبًا لحظات التجلي والنور. وأُبشِّرك: إن الشوق إلى الله بداية اللقاء، والظمأ إليه بداية الري، والتساؤل عن معاني أسمائه بداية المعرفة. قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾ [العنكبوت: 69].
إن السؤال الذي طرحته هو سؤال العارفين الصادقين، أولئك الذين لا يكتفون بمظاهر الطاعة، بل يطلبون لبَّها وروحها، الذين لا يرضيهم أن يذكروا اسم الله بألسنتهم فقط، بل يتوقون إلى أن يفيض الاسم على قلوبهم وسلوكهم ومشاعرهم.
حقيقة الفراغ الذي تشعر به:
قولك: "أجد شيئًا داخليًّا ما زال فارغًا، وكأن العلاقة بيني وبين الله لم تكتمل بعد"، هو تعبير دقيق عن شعورٍ يمرّ به كل سالكٍ لطريق الله. إنَّه "فراغ القلب" الذي لا يُملأ إلا بالله، وكلما اقترب العبد من ربه، شعر بمقدار ما ينقصه من هذا القرب، كما قال بعض السلف: "كلما ازددتُ قربًا منه، شعرتُ بمقدار جهلي به!".
فاطمئن، إن هذا الإحساس الذي يسكنك الآن، ليس علامة بُعد، بل علامة صدق. هو ما قال عنه السلف: "القلق في طريق الله دليل حياة القلب، فإن الميت لا يشعر!"
وقد قال رسول الله ﷺ: «ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد ﷺ نبيًّا» [رواه مسلم]. فالإيمان له طعم، وله مذاق، والمذاق لا يُنال إلا بالمجاهدة والملازمة والصبر.
معنى حديث «من أحصاها دخل الجنة»:
الحديث الذي ذكرتَه: «إن لله تسعةً وتسعين اسمًا، مَن أحصاها دخل الجنة» [متفق عليه]، هو من أعظم أبواب المعرفة بالله. غير أن كلمة «أحصاها» في الحديث ليست مجرد حفظٍ وعدٍّ كما قد يظن بعض الناس؛ بل فسَّرها العلماء بثلاثة مستويات:
1- عدُّها ومعرفتها.
2- فهم معانيها ومدلولاتها.
3- التعبد بها والتخلق بآثارها.
فـ«الإحصاء» الذي يورث الجنة هو إحصاءٌ حيٌّ، يتجاوز اللسان إلى القلب، ويتجاوز الحفظ إلى العمل.
يقول ابن القيم رحمه الله: «العلم بأسماء الله وصفاته أصل كل علم؛ فمن عرف الله بأسمائه وصفاته أحبه، وأقبل عليه، وأخلص له العمل».
كيف تُدخل أسماء الله الحسنى إلى قلبك وسلوكك؟
هنا لبُّ السؤال، وهنا الجواب الذي تحتاج إليه لتنتقل من المعرفة الذهنية إلى العيش القلبي لمعاني الأسماء. وسأقدم لك خمس وسائل عملية تساعدك -بإذن الله- في ذلك:
1- التذوُّق مع الترديد
لا تكتفِ بتكرار الأسماء بوصفها أذكارًا مجردة؛ بل قف عند كل اسم، وتأمل معناه، ثم اسأل نفسك:
- ما أثر هذا الاسم عليَّ الآن؟
- كيف أرى هذا الاسم في واقعي؟
- ما الحاجة التي يملؤها هذا الاسم في قلبي؟
مثلًا:
«الرحيم»: تأمل رحمته مع ذنوبك الماضية، رحمته في تأخُّر العقوبة، رحمته في أنك عدت إليه ففتح لك الباب.
«الحكيم»: تذكَّره عندما تعجز عن فهم حكمة ما يجري في حياتك، فيعطيك السكينة واليقين.
«اللطيف»: استشعر كيف ساق لك الخير بلُطف دون أن تدري، وكيف يعتني بك دون أن تشعر.
فكلما ربطتَ الاسم بحالك، صار الاسم حيًّا في وجدانك.
2- التخلق بآثار الأسماء
أي أن تسأل نفسك: كيف أتخلَّق بما يناسب هذا الاسم من الصفات؟
- «الرحمن»: كن رحيمًا بالناس.
- «السِّتير» استر على الخلق.
- «العفُو»: اعفُ عمَّن ظلمك.
- «الرزَّاق»: كن سببًا في رزق غيرك بالصدقة والسعي له.
- «الشكور»: اشكر من أسدى إليك معروفًا.
3- الدعاء بأسمائه الحسنى:
من أعظم أبواب القرب: أن تدعو الله بكل اسم تعرفه، وأن تجعل الدعاء بما يناسب الاسم. قال تعالى: ﴿وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا﴾ [الأعراف: 180].
مثلًا:
- إن احتجتَ سترًا فقل: «يا ستير، استرني».
- إن ضاقت بك الدنيا، فقل: «يا واسع، وسِّع عليَّ».
- إن أردت المغفرة والتوبة، فقل: «يا غفور، يا توَّاب، اغفر لي ذنوبي وتُب عليَّ».
وسترى أثرًا عجيبًا إذا جعلت دعاءك مشربًا بمعاني الأسماء.
4- الربط بالأحداث اليومية:
حاول أن تدرِّب قلبك على قراءة الأحداث بنور أسماء الله:
- تأخَّر أمر تحبه؟ تذكَّر «الحكيم».
- مصيبة نزلت؟ تذكَّر «الرحمن» و«العدل».
- رزق يسير أتاك؟ تذكَّر «الرزاق» و«الكريم».
هذا يجعلك ترى الله في كل تفاصيل حياتك، فتهدأ نفسك، ويثبت قلبك على الإيمان.
5- تدبُّر أسمائه -تعالى- في القرآن:
حين تقرأ القرآن، درِّب نفسك على أن تتوقف عند كل اسم من أسماء الله، وتتأمل كيف ورد، وفي أي سياق، وماذا يريد الله أن يعلِّمك من خلاله.
مثال:
في قوله تعالى: ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ [الملك: 14]، تجد أن الله يجمع بين الاسمين ليقول لك: لا تقلق؛ فالله يعلم كل تفاصيلك، ويعتني بك بلُطف، وإن لم ترَ ذلك الآن.
وختامًا، أخي الكريم، اعلم أن الله إذا أحبَّ عبدًا فتح له بابًا من المعرفة به، يكون له فيه سلوى وعزاء وطمأنينة. وما دمتَ قد وقفت على باب أسماء الله، فاعلم أن الله قد أذِن لك أن تدخل. فلا تتعجل الثمر؛ بل واصل السعي، وسترى النور يومًا بعد يوم، يملأ هذا «الفراغ» الذي تشعر به الآن، حتى يصير قلبك مأهولًا بأنوار القرب، وجنان المعرفة.
تذكّر هذا الدعاء العظيم الذي سمع النبي ﷺ رجلًا يقوله: «اللهم إني أسألك بأنك أنت الله، لا إله إلا أنت، الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد»، فقال ﷺ له: «لقد سألتَ الله باسمه الأعظم، الذي إذا دُعي به أجاب، وإذا سُئل به أعطى» [رواه الترمذي].
أسأل الله أن يُحيي قلبك بمعرفته، وأن يجعل أسماءه الحسنى جلاءً لهمِّك، ونورًا لطريقك، ومفتاحًا لباب جنةٍ لا يُغلق.
ولا تنسَ أن القلوب لا تهدأ إلا حين تعرف من تخاطبه، وتثق بمن تدعوه، وتحيا بأسمائه... والله وليُّ الذين آمنوا.