Consultation Image

الإستشارة
  • المستشار : أ. فتحي عبد الستار
  • القسم : إيمانية
  • التقييم :
  • عدد المشاهدات : eye 126
  • رقم الاستشارة : 1544
08/04/2025

أنا شاب عديت التلاتين، ومعروف بين صحابي وأهلي إني صريح وصادق زيادة عن اللزوم. مش بحب التصنُّع ولا المجاملات اللي ملهاش معنى، وبضايق جدًا من الناس اللي بتتكلف وتتكبّر وتلبس وش مش بتاعهم. أنا مش ملاك، وبعترف بضعفي وأخطائي، بس بحاول أشتغل على نفسي، وأحافظ على الإيجابي اللي جوايا، وأفرح بيه، وأنقله للي حواليا، باختصار: عايز أكون إنسان زي ما ربنا خلقني.

كتير بدخل في مشاكل بسبب صراحتي، سواء مع مدرسين أو دكاترة أو حتى قرايبي وأصحابي، خصوصًا لما بشوف تعالي أو ظلم، ساعتها مش بعرف أسكت. اللي بيكسرني بجد، إنّي أكتشف التصنُّع أو التكبر في ناس كنت بحبهم وواثق فيهم. ولما بيحصل كده، قلبي مش بيستحمل، وبقوم أواجههم، حتى لو ده خسرني علاقتي بيهم أو فهموني غلط.

ناس كتير بتقول لي إني ماعنديش "سياسة" في التعامل، وكان أبويا الله يرحمه دايمًا يقول لي: «يا ابني انت ما بتعرفش تأمَّر عيشك»، وكان يقصد إني مش بعرف أداري أو أجامل زي ما الحياة بتفرض أوقات.

بصراحة... تعبت.

وبسأل: هو أنا غلطان إني صادق كده؟

هل ممكن الواحد يفضل وفي لمبادئه، وصادق وشفاف، من غير ما يتأذي أو يخسر ناس حواليه؟

وهل الصدق يتعارض مع الحِلم والذكاء الاجتماعي؟

أنا محتاج كلمة تشرح لي صدري، وتساعدني أكمل من غير ما أفرّط في نفسي.

الإجابة 08/04/2025

أهلاً بك أيها الصادق الجميل، ومرحبًا بك في رحابنا التي نأمل أن تكون لك ملاذًا آمنًا وبلسَمًا شافيًا، ونسأل الله أن يرزقك نور البصيرة، وراحة الصدر، ورفقة صالحة تُعينك على دربك وتحتويك، وبعد...

 

يا أخي الكريم، لقد قرأت كلماتك فوجدتني أسمع فيها صوت إنسانٍ نقيٍّ، يحمل قلبًا لم تكدِّره الأقنعة، ولم تلوِّنه المجاملات الباهتة. إن ما وصفته ليس سلوكًا عابرًا؛ بل هو موقف وجودي متجذر في أعماقك، ورؤية صادقة لنفسك والناس، تستحق الاحترام والاعتبار.

 

دُم على كونك «إنسانًا» كما خلقك الله:

 

قولك: «عايز أكون إنسان زي ما ربنا خلقني» هو في ذاته دعاءٌ عميق؛ لأن الله عز وجل قال: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾ [الإسراء: 70]، فالإنسان مكرَّم بإنسانيته لا بتكلُّفه، وبضعفه المعترف به لا بادعاء القوة، وقد قال النبي ﷺ: «كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون» [رواه الترمذي]، فالمجاهد لنفسه، المعترف بتقصيره، أحب إلى الله من المتصنع المتكلف.

 

إن استمتاعك بمجاهدة صفاتك السلبية، وتنعمك بالصفات الطيبة، وحرصك على نقلها، هو سلوك الصالحين الذين قال الله فيهم: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾ [العنكبوت: 69].

 

ودُم على رفضك للتصنُّع والكِبر مع الرفق:

 

إن كرهك للتصنُّع والكِبر هو من صدق الإيمان. فقد قال النبي ﷺ: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كِبر» [رواه مسلم]، والتصنع والتكلف هما أول الطريق إلى الرياء؛ لكننا -يا عزيزي- نعيش بين بشر، منهم الصادقون ومنهم المتكلفون، وما كل من لبس قناعًا فعل ذلك خبثًا، فقد يكون هروبًا من ألم، أو ضعفًا في التربية، أو خوفًا من الخسارة. فرفقًا بمن حولك، فإن النبي ﷺ حين واجه الأدعياء لم يكن فظًّا، بل كان كما قال الله عنه: ﴿وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾ [آل عمران: 159].

 

من تحبه أولى بالرفق:

 

ما أقسى أن تُخدَش صورتُنا عند من أحببنا، وما أشد وقْع خيبة الأمل حين تأتي ممن نثق بهم. وقد قال الشاعر القديم:

 

وظلمُ ذوي القربى أشدُّ مضاضةً .. على المرء من وقع الحُسامِ المهندِ

 

لكن تأمَّلْ حال يوسف -عليه السلام- حين قال لإخوته بعد كل ما فعلوه: ﴿لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ﴾ [يوسف: 92]، فليس المطلوب منك أن تصمت عن الظلم أو التصنع، ولكن أن تختار اللحظة المناسبة، والأسلوب الحكيم، والنية الخالصة لله، فإن الصدع بالحق لا يناقض الحلم، والمواجهة لا تعني القسوة.

 

فطرتك طيبة تحتاج التوجيه

 

هذه السمة الفطرية فيك، هي نعمة إن وُجهت، ونقمة إن تُركت بلا تهذيب. والنبي ﷺ -وهو الصادق الأمين- لم يكن يصدع بالحقيقة فحسب، بل يُلبسها حُلةَ الرحمة والرِّفق، فيقول ﷺ: «ما كان الرفق في شيء إلا زانه، ولا نُزع من شيء إلا شانه» [رواه مسلم].

 

ولا تنسَ أن الصدق لا ينفي الحِكمة، والحِكمة لا تُبطل الصدق، فإنَّ من البيان لسحرًا، ومن السكوت لحكمة، ولكل مقامٍ مقال.

 

«السياسة» ذكاء لا نفاق

 

إن والدك -رحمه الله- أراد لك أن تعيش بين الناس بذكاء لا بنفاق. واعلم أن السلامة ليست في التطرف؛ ولكن خير الأمور الوسط. وقد قال النبي ﷺ: «المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم» [رواه الترمذي].

 

وجميل منك تواضعك وإقرارك بعدم المثالية، فهذا هو تاجُ الصدق، وقد كان من دعائه ﷺ: «اللهم آتِ نفسي تقواها، وزكِّها أنت خير من زكّاها، أنت وليّها ومولاها» [رواه مسلم]، فلا تقلل من شأن سعيك، ولا تحتقر جهادك، فإن الله يرى محاولاتك ويحبك لأجلها.

 

وختامًا - أيها الجميل بقلبه، الوفي لمبادئه، المجاهد لنفسه- امضِ في طريقك؛ لكن لا تنسَ أن الصدق يحتاج إلى رفق، والحزم يحتاج إلى رحمة، والمواقف تحتاج إلى حكمة. لا تُغيِّر جوهرك لأجل أحد، لكن طوِّع أسلوبك ليصل صوتك إلى قلوبهم، لا ليصطدم بجدرانهم. واجعل شعارك: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [فصلت: 34]، وستجد أن القلوب تُفتح بالحُسنى أكثر مما تُقهر بالحق الخشن.

 

سدد الله خُطاك، وطيب ذِكرك، ورضي عنك وأرضاك، وتابعنا بأخبارك.

الرابط المختصر :