Consultation Image

الإستشارة
  • المستشار : أ. فتحي عبد الستار
  • القسم : إيمانية
  • التقييم :
  • عدد المشاهدات : eye 105
  • رقم الاستشارة : 1619
14/04/2025

أنا شاب في أوائل الثلاثين من عمري، نشأت في بيئة يغلب عليها التدين إلى حدّ ما، لكنها تميل في كثير من الأحيان إلى تصديق كل ما له علاقة بالخوارق، والعين، والحسد، والجن، وتأثير هذه الأمور في مجريات الحياة اليومية.

ومع مرور الوقت، لاحظت إن هالمفاهيم صارت تفسّر أغلب المشكلات والصدف اللي نمر فيها. حاولت أتحرر من هالنمط، فبدأت أقرأ في العلوم الحديثة، وتعمّقت في مناهج التفكير العلمي، وفعلاً، تغيّرت نظرتي جذريًا.

صرت أرفض أي فكرة ما تستند إلى العقل أو الدليل العلمي. وهذا التحوّل خلاني أحس بثبات داخلي أكثر، وأني تخلّصت من كثير من الأوهام؛ لكن بصراحة، صرت أحس في داخلي نوع من الجفاف، كأني فقدت الإحساس القديم اللي كان يخليني أعيش بشيء من الرهبة والتأمل، إحساس إن الكون فيه أسرار أكبر من إدراكي، وإن فيه قوى خفيّة ما أفهمها، لكنها كانت تزرع بداخلي الخشوع.

سؤالي: هل التحوّل اللي حصل في طريقة تفكيري يُعتبر صحي؟

شلون ممكن أوازن بين احترام العقل والعلم، وبين الإيمان إن فيه في هالكون طاقات وأمور ما نعرفها بعد؟ وهل ممكن للعقل فعلاً يكون طريق لفهم الغيب، من غير ما نقع في فخ الخرافة؟

الإجابة 14/04/2025

مرحبًا بك أيها الأخ الكريم، ونشكرك جزيل الشكر على تواصلك معنا، وعلى ثقتك الغالية التي نعتز بها، ونسأل الله أن يضيء عقلك بنوره، ويزيد قلبك بصيرة وطمأنينة، وأن يجعل بحثك عن الحق في ميزان حسناتك، وبعد...

 

فلقد عبّرت –أخي الكريم- من ضفة الخوف والتفسير الغيبي المفرِط، إلى ضفة العقل والتحقيق العلمي، ثم بدأت تفتقد تلك «الرهبة» التي كانت تمنح قلبك السكون والتأمل.

 

وهذا السعي المبارك -يا أخي- ليس غريبًا على طريق الإيمان؛ فقد مرَّ به إبراهيم عليه السلام وهو يطلب الطمأنينة من ربه: ﴿وإذْ قَالَ إبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي المَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى ولَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾ [البقرة: 260]، ومرَّ به الإمام أبو حامد الغزالي، وهو يغوص بين مذاهب المتكلمين والفلاسفة، ومرَّ به كلُّ من أراد للإيمان أن يكون يقينًا لا تقليدًا، ورسوخًا لا قشرةً.

 

هل تحوُّلك هذا صحِّي؟

 

نعم، ما قمت به هو خطوة صحية ومهمة في مسيرة النضج العقلي والروحي؛ لكنها بحاجة إلى إكمال وتوجيه. إن الانتقال من الخوف غير العاقل، ومن تصديق كل ما يُقال باسم الغيب دون بينة، إلى منطقة البحث والتمحيص، هو تحرر من أسر الوهم، وهو ما أمرنا به ديننا الحنيف.

 

فالله –تعالى- يأمرنا بالتدبر والنظر في آياته الكونية كما يأمرنا بالتدبر في كتابه: ﴿قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [يونس: 101]، ﴿ أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ﴾ [الروم: 8]، ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ [آل عمران: 190].

 

فالإيمان الحق لا يتعارض مع العقل أبدًا؛ بل يستند إليه ويستنير بنوره، ويهذب انطلاقته لئلا تضل.

 

ولكن -وهنا لب المسألة- إذا تطرَّف العقل وانفصل عن القلب والروح، صار كالنصل الحاد الذي يقطع دون روية، ودون رحمة. ولعل ما تشعر به الآن من «الجفاف» هو ناتج عن هذا الانفصال؛ فقد استقمتَ في العقل، لكنك فقدت حضور قلبك، واشتقت إلى ذلك الشعور العميق بأنك في كون لا تدرك كلَّ أسراره، ولكنك تسجد لله الذي يعلمها.

 

كيف نجمع بين احترام العقل والعلم وبين الإيمان بالغيب؟

 

التوازن لا يعني أن نُقسم الحياة نصفين، نصفًا للعقل ونصفًا للروح؛ بل أن نجعل العقل في خدمة الإيمان، والقلب في لُب الفهم، بحيث يُنير أحدهما الآخر.

 

والنبي ﷺ علَّمنا هذا التوازن بأرقى صورة؛ فلم يكن يخوِّف الناس من كل عارض، ولم يكن يُعطل عقولهم؛ بل كان يُحذِّر من الغُلُو، ويعلمنا أن نأخذ بالأسباب، وأن نثق بالله. قال ﷺ: «لو أنكم توكلون على الله حق توكله، لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصًا وتروح بطانًا» [رواه الترمذي]، ففي الحديث إشارة إلى السعي (العقل)، والتوكل (الإيمان)، والربط بين السبب والمسبب، من غير غُلُو في أي طرف.

 

وكذلك في التعامل مع الأمور الغيبية، كالحسد والعين والجن، فإن الإسلام لم ينفِ وجودها، بل أثبتها؛ لكن دون أن تكون مبررًا لكل خلل أو مصيبة. قال تعالى: ﴿وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ﴾ [الفلق: 5]، وقال ﷺ: «العين حق» [رواه مسلم].

 

لكن لم يُطلب منا أن نفسّر كل ما يقع بهذه الأمور، بل أن نتحصَّن، ونعقل، ونتوكل، ونمضي في الحياة بإيجابية.

 

فلا العلم يمنعنا من الاعتقاد بالغيب، ولا الإيمان يدفعنا لإنكار قوانين الكون؛ بل الاثنان إذا اجتمعا نما الإنسان سويًّا آمنًا راشدًا.

 

هل يمكن للعقل أن يفهم الغيب بعيدًا عن الخرافات؟

 

نعم، العقل قادر على أن يؤمن بالغيبيات؛ لكنه ليس الوسيلة الوحيدة لفهمه. العقل يُمهّد الطريق، ويمنعنا من الخرافة، لكنه يقف عاجزًا أمام حدود لا يملك مفاتيحها.

 

فمثلًا: العقل يعلم أن للكون بداية؛ لكنه لا يستطيع أن يدرك ما قبلها، ويعلم أن الإنسان مخلوق دقيق مذهل؛ لكنه لا يستطيع أن يُفسِّر سرَّ الروح: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [الإسراء: 85].

 

الإيمان بالغيب في الإسلام ليس خرافة، بل هو ركن من أركان الإيمان: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ [البقرة: 3]، ولكنه إيمان منضبط بالوحي، قرآنًا وسُنَّة، لا يُطلق العنان للخيالات والأساطير.

 

فما دمت تُميِّز بين ما ثبت بالدليل، وما هو مجرد ادَّعاء، فأنت على الطريق الصحيح. العقل ليس عدوًّا للغيب، بل هو حارس بوابته؛ يُبعد الخرافة، ويُمهِّد للإيمان.

 

وختامًا -أيها الحبيب- إن ما تشعر به من جفاف، ليس نتيجة معرفتك الجديدة، بل هو إشارة من قلبك إلى أنك بحاجة إلى إعادة الاتصال بالروح، لا بإلغاء العقل، بل بجعله خادمًا للحق، لا سجينًا للشك.

 

دع العقل يبحث، ودع القلب يسجد، ودع الروح تشتاق، وستجد أن السكينة التي فقدتها تعود إليك، ولكن بنضج جديد، وسعة أعمق، ويقين أجمل.

 

وقد قال الإمام ابن القيم رحمه الله: «في القلب شعث لا يلمه إلا الإقبال على الله، وفيه وحشة لا يزيلها إلا الأنس به، وفيه حزن لا يذهبه إلا السرور بمعرفته وصدق معاملته»، فلا تحرم نفسك من لحظة مناجاة في جوف الليل، ولا من آية تتدبَّرها بعين الباحث وقلب المتأمل.

 

اجعل لعقلك نصيبًا، ولروحك وردًا، ولسجودك دمعًا، وسترى العجب في نفسك.

 

أسأل الله أن يرزقك نورًا في العقل، وصفاءً في القلب، وطمأنينة في الطريق.

 

وإن احتجت للحوار في أي مسألة، فنحن هنا، وفقك الله وإيانا إلى الحق وإلى الطريق المستقيم، والحمد لله رب العالمين.

الرابط المختصر :