الإستشارة - المستشار : أ. فتحي عبد الستار
- القسم : إيمانية
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
138 - رقم الاستشارة : 1566
10/04/2025
السلام عليكم، أنا بنت في آخر العشرينات، وكنت دايمًا بحسّ إن قلبي ميّال للدين، وبحب القُرب من ربنا. من فترة بدأت ألتزم أكتر، أصلي بوقتها، أقرأ قرآن، وأحاول أضبط لبسي وأبتعد عن الأغاني والحاجات اللي بتحوشني عن الطاعة. بس فيه حاجة غريبة بقت تحصل لي… كل ما أقرب من ربنا أكتر، كل ما أحس إن الدنيا بتضيق عليّ!
بمعنى… العلاقات بتفتر، صحابي بقوا يبعدوا، فرص شغل كانت قريبة بتتعرقل، حتى حاجات صغيرة زي خروجات أو طلبات بتقف فجأة من غير سبب.
بدأت أوسوس… هل أنا كده ماشيه صح فعلاً؟ ولا ربنا مش راضي عني؟ ولا دي اختبارات؟ بس ليه كل ده بيحصل وأنا أصلاً قربتله؟
أنا نفسي أعرف: هل ده طبيعي؟ هل في علاقة بين القرب من ربنا وبين الضيق اللي بحس بيه؟ ولو ده اختبار، أتعامل معاه إزاي من غير ما يضعفني؟ وهل ربنا ممكن يبعد عني حتى لو أنا بحاول أقرّب له؟
مرحبًا بكِ -ابنتي الغالية- وأسأل الله الكريم أن يربط على فؤادكِ، ويشرح صدرك، ويُثبّتكِ على طريقه المستقيم، ويجعل لكِ من كل همٍّ فرجًا، ومن كل ضيقٍ مخرجًا، ومن كل بلاءٍ عافية، وبعد...
فما أجمل القلب الذي يتوجه إلى الله مشتاقًا، ساعيًا إليه رغم متاعب الطريق ومشوشات الحياة! إنَّ ما وصفتِه في رسالتك من انجذاب قلبك نحو الله، وحرصك على الصلاة، وقراءة القرآن، وضبط الجوارح، هو دليل يقظة قلبٍ يحب الله ويشتاق للقرب منه. وهذا بحد ذاته نعمة عظيمة لا توزن بكنوز الدنيا، وهو أول الطريق نحو النور والهداية، ﴿وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ﴾ [التغابن: 11].
ومع ذلك، فقد ذكرتِ أمرًا يُشعرك بالحيرة والضيق، وهو أنكِ كلما اقتربتِ من ربك، ضاقت الدنيا من حولك، فهل هذا طبيعي؟ وهل هو علامة رضا أم غضب؟ وسأجيبك –مستعينًا بالله- عن كل تساؤلاتك، وأسأله –سبحانه- التوفيق.
هل القرب من الله يجلب الضيق؟
اعلمي يا ابنتي أن القرب من الله لا يُشترط أن يعطيك انشراحًا فوريًّا في الدنيا، بل قد يصاحبه ضيق أو كَدَر لحكمة إلهية. يقول الله تعالى: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُترَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ﴾ [العنكبوت: 2]، وهذه الفتنة ليست دليلاً على الغضب أو عدم القبول؛ بل قد تكون تمحيصًا ورفعة، فكلما عظُم القرب عظُم الابتلاء؛ لأن الله يريد أن يُظهر صدق عبده، ويزكي إيمانه، ويُصلب عوده في الطريق.
تأملي في سيرة النبي ﷺ، وهو أحب خلق الله إليه، ومع ذلك ضُيِّق عليه في مكة، وحُوصِر في الشِّعب، وطُرد من الطائف، وفقد أحبَّ الناس إليه؛ أكان ذلك لأن الله لا يحبه؟! حاشاه سبحانه! بل كانت علامات رفعة وقرب واختبار لصدق المحبة.
قال رسول الله ﷺ: «أشد الناس بلاءً الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يُبتلى المرء على قدر دينه» [رواه الترمذي]. فكلما زاد الإيمان اشتد الابتلاء، لا ليُعذِّبنا الله، بل ليُهيئنا لما هو أعظم.
لماذا تتعقد العلاقات وتتعرقل الأمور؟
هذا أمر –إن حدث- فهو طبيعي جدًّا في مسيرة المؤمن؛ لأن القرب من الله يعني أن القلب يبدأ في التخلِّي عن تعلِّقه بما لا يرضي الله، ويبدأ الله تصفية محيط العبد من كل ما لا ينفع، حتى لو بدَت الخسارة مؤلمة.
أحيانًا، الله يُبعد عنك أُناسًا لأنهم لم يكن فيهم خير لكِ، أو لأنهم يشدُّونكِ إلى الوراء وأنتِ تريدين التقدُّم. وأحيانًا تُغلق الأبواب الدنيوية؛ لأن الله يريد أن يُنقِّي نيتكِ ويُخلِص قلبكِ له.
انظري إلى قول الله تعالى: ﴿وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾ [البقرة: 216]. كم من باب أغلقه الله علينا وكان فتحًا من نوعٍ آخر لا نراه الآن؛ لكنه سيتجلَّى يومًا ما بوضوح الشمس!
هل هذه اختبارات؟ وكيف نتعامل معها؟
نعم يا ابنتي، هذه اختبارات من الله؛ لكنها اختبارات محبة، لا عقوبة، فالله –سبحانه- حين يراكِ تقتربين يريد أن يُثبتك، فيبتليك، ليُظهر فيكِ الصبر واليقين والثبات، ليكافئكِ أعظم مكافأة.
قال رسول الله ﷺ: «إن عِظَم الجزاء مع عِظَم البلاء، وإن الله إذا أحب قومًا ابتلاهم» [رواه الترمذي].
فلا تنظري إلى الابتلاء كغضب؛ بل كعَلامة عناية، وكأن الله يقول لك: هل تحبينني حتى في الضيق؟ فإن قلتِ: نعم، رفعكِ عنده درجات!
أما كيف تتعاملين معه؟ فإليك بعض الوصايا:
1- الاستمرار على الطاعة مهما ضاقت الدنيا. فالثبات علامة الصدق.
2- الشكوى إلى الله لا منه. قولي كما قال يعقوب: ﴿إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ﴾ [يوسف: 86].
3- الاستغفار والدعاء بنية الفرج والسكينة. قال ﷺ: «من لزم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجًا، ومن كل ضيق مخرجًا» [رواه أبو داود].
4- قراءة سير الصالحين والأنبياء، ففيها أُنس للمبتلين.
5- الرضا بالقضاء، يقينًا بأن الله لا يُدبِّر لعباده إلا الخير.
هل يبعدك الله عنه رغم تقرُّبك له؟
لا والله يا ابنتي، ما كان الله ليُبعد عبدًا اقترب إليه؛ بل يقول ربُّنا في الحديث القدسي: «ومن تقرب إليَّ شبرًا، تقربتُ إليه ذراعًا، ومن تقرب إليَّ ذراعًا، تقربتُ إليه باعًا، ومن أتاني يمشي، أتيتُه هرولة» [رواه البخاري].
إن الله لا يطرد من أقبل عليه، ولا يُخيِّب من طرق بابه، ولا يُبقي قلبًا فيه حبه دون أن يصطفيه؛ لكن أحيانًا نَظُن أننا نُبعَد، لأننا –فقط- لم نفهم حكمة الله في الابتلاء. الله قريب؛ بل أقرب إليك من وريدك، ولكن يريدكِ أن تتطهَّري من علائق الدنيا، حتى يصفو قلبكِ له وحده.
وختامًا، ابنتي الغالية، إن ضيق الدنيا أحيانًا يكون علامة أن القلب هو الذي صار ضيقًا عنها، وصار يتسع للآخرة. وهذه منزلة راقية لا يصل إليها إلا المُخلصون. فابتهجي حتى في الحزن. وابتسمي رغم العتمة. فربُّك الذي أحبّكِ فهداك، لن يترككِ في منتصف الطريق.
ثقي أن الفرج آتٍ لا محالة؛ لأنكِ اخترتِ الله، والله لا يُضيِّع من اختاره. وتذكّري قول الله: ﴿إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾ [الشرح: 6]، ولم يقل: «بعده»، بل قال: «معه»، فالفرج يولد مع الألم، والرحمة واللطف يغلِّفان البلاء.
أسأل الله أن يشرح صدرك، ويجعل لك من كل همٍّ فرجًا، وأن يرزقكِ الصحبة الصالحة، والعمل الطيب، والحياة الطاهرة النقية. دمتِ لله، وبالله، ولله. وتابعينا بأخبارك.