الإستشارة - المستشار : أ. مصطفى عاشور
- القسم : فكرية
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
216 - رقم الاستشارة : 1555
08/04/2025
هل الأخلاق ضرورة في الجدال والنقاش أم أن هدف الجدال يجب أن ينصب على الانتصار للرأي والفوز في النقاش؟
لا تنفك الأخلاق عن الجدل والمناظرة والنقاش، وإذ غابت الأخلاقيات فإن الجدل يتحول إلى معركة وضغينة وانتقام، ولهذا كانت الرؤية الإسلامية لا تفصل بين الأخلاق والجدال.
يقول يونس الصدفي، وكان من كبار علماء ومحدثي مصر، (توفي 264هـ): "ما رأيت أعقل من الشافعي، ناظرته يومًا في مسألة، ثم افترقنا، فأخذ بيدي، ثم قال: يا أبا موسى، ألا يستقيم أن نكون إخوانًا وإن لم نتفق في مسألة".
فهذه الأخلاقيات العظيمة هي التي يجب أن تحكم النقاش والجدال، وليس روح إفحام الخصم والانتصار عليه، يقول تعالى في سورة النحل: {وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} هذه الآية العظيمة ترسم النهج الأخلاقي القويم في النقاش، جاء في تفسير الظلال لتلك الآية: "النفس البشرية لها كبرياؤها وعنادها، وهي لا تنزل عن الرأي الذي تدافع عنه إلا بالرفق، حتى لا تشعر بالهزيمة. وسرعان ما تختلط على النفس قيمة الرأي وقيمتها هي عند الناس، فتعتبر التنازل عن الرأي تنازلاً عن هيبتها واحترامها وكيانها. والجدل بالحسنى هو الذي يطامن من هذه الكبرياء الحساسة. ويشعر المجادل أن ذاته مصونة، وقيمته كريمة، وأن الداعي لا يقصد إلا كشف الحقيقة في ذاتها".
ولهذا كان الإمام الشافعي، يضع أمام ناظريه أن يقصد الحق والخير والصواب في نقاشه؛ لأن هذه القصدية والغاية، هي العاصمة من الانحراف النفسي نحو الأخلاق المذمومة في النقاش، وكان يقول: "ما ناظرت أحدًا قط إلا أحببت أن يوفق ويسدد، وما ناظرت أحدًا إلا ولم أبالِ بيَّن الله الحق على لساني أو لسانه".
أما إسماعيل بن مصطفى الكلنبوي الرومي الحنفي، فيقول في مقدمة كتابه "آداب المناظرة": "اعلم أن البحث والمناظرة مدافعة الكلام ليظهر الحق".
أما الغضب فإنه يعصف بالعقل، ولهذا قال ابن القيم في كتابه "إعلام الموقعين": "الغضب غول العقل، يغتاله كما تغتاله الخمر"، وكان المؤرخ المحدث الخطيب البغدادي، يحذر من خلق العجب في الجدال، وقال: "وينبغي أن لا يكون معجبًا بكلامه مفتونًا بجداله، فإن الإعجاب ضد الصواب ومنه تقع العصبية، وهو رأس كل بلية"، والأخلاق العالية والسلوك الطيب قد يجعل الخصم يحول موقعه ليقف بجوارك.
ومن الأخلاق التي حضت عليها الخبرة الإسلامية أثناء الجدال، ما ذكره الإمام الكبير أبو المعالي الجويني، في ضرورة إعطاء الخصم حقه من الاحترام والتقدير، وعدم إهدار كرامة ذلك الخصم، يقول الجويني: "وعليك المحافظة على قدرك، وقدر خصمك، وإنزال كل أحد في وجه كلامك معه درجته ومنزلته، فتميز بين النظير، وبين والمسترشد، وبين الأستاذ".
أما الإمام الشاطبي، فحض على التزام خلق اللين والرفق في الجدال، حتى لا تتحول المناظرة إلى حلبة صراع، فيقول عن أهمية الرفق واللين: "لأن ذلك أدعى إلى القبول وترك العناد، وإطفاء نار العصبية".
في كتاب "كيف تجادل وتربح كل مرة" قدم مؤلفه "جيري سبينس" نصيحة بضرورة التحلي بالأخلاقي في الجدال، فيقول: "لا تقلق من أن تبدو ضعيفًا من خلال الهدوء في خضم الجدل؛ لأنك ستكسب نقاطًا من خلال إظهار أنك يمكنك ممارسة ضبط النفس".
أما الأمانة الفكرية والعلمية فهي ضرورة أخلاقية في النقاش، والبعض قد يتساهل فيها للفوز على خصمه في الجدال، ولهذا قد يلجأ إلى الأخلاق الذميمة في التلاعب بالمعلومات والحقائق لإثبات وجهة نظره.
وقد تحدث الإمام أبو حامد الغزالي عن أخلاقيات المناظرة في كتاب إحياء علوم الدين، فربط غياب الأخلاق في الجدل بظهور أمراض قلبية وسلوكية تفسد على الإنسان دينه وأخلاقه، فقال: "اعلم وتحقق أن المناظرة الموضوعة لقصد الغلبة والإفحام وإظهار الفضل والشرف والتشدق عند الناس وقصد المباهاة والمماراة واستمالة وجوه الناس هي منبع جميع الأخلاق المذمومة عند الله المحمودة عند عدو الله إبليس، ونسبتها إلى الفواحش الباطنة من الكبر والعجب والحسد والمنافسة وتزكية النفس وحب الجاه".
ثم يقول: "من غلب عليه حب الإفحام والغلبة في المناظرة وطلب الجاه والمباهاة دعاه ذلك إلى إضمار الخبائث كلها في النفس وهيج فيه جميع الأخلاق المذمومة...".
ثم ينبه الغزالي أن غياب الأخلاق في المناظرة يقود إلى الحسد فيقول: "ولا ينفك المناظر عن الحسد فإنه تارة يغلب وتارة يغلب وتارة يحمد كلامه وأخرى يحمد كلام غيره، فما دام يبقى في الدنيا واحد يذكره بقوة العلم والنظر أو يظن أنه أحسن منه كلامًا وأقوى نظرًا فلا بد أن يحسده ويحب زوال النعم عنه وانصراف القلوب والوجوه عنه إليه".
كما أنها تحرض على الحقد يقول الغزالي: "ولا ترى مناظرًا يقدر على أن لا يضمر حقدًا على من يحرك رأسه من كلام خصمه ويتوقف في كلامه فلا يقابله بحسن الإصغاء، بل يضطر إذا شاهد ذلك إلى إضمار الحقد وتربيته في نفسه".
وتحرض كذلك على الغيبة، فيقول: "ولا يزال المناظر مثابرًا على أكل الميتة فإنه لا ينفك عن حكاية كلام خصمه ومذمته، وغاية تحفظه أن يصدق فيما يحكيه عليه ولا يكذب في الحكاية عنه فيحكي عنه لا محالة ما يدل على قصور كلامه وعجزه ونقصان فضله وهو الغيبة فأما الكذب فبهتان، وكذلك لا يقدر على أن يحفظ لسانه عن التعرض لعرض من يعرض عن كلامه ويصغي إلى خصمه ويقبل عليه حتى ينسبه إلى الجهل والحماقة وقلة الفهم والبلادة".