الإستشارة - المستشار : أ. فتحي عبد الستار
- القسم : إيمانية
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
29 - رقم الاستشارة : 1864
08/05/2025
السلام عليكم.. لديّ سؤال حول الحج: أعلم أنه ركن عظيم من أركان الإسلام، لكن لماذا تم تخصيصه بأيام معينة فقط في السنة، ولماذا لا يُسمح بالحج طوال العام مثل العمرة؟ خصوصًا أن الزحام الشديد تصاحبه مشقة كبيرة، وقد يؤدي إلى إصابات أو وفيات، بالإضافة إلى الأسعار المرتفعة التي تجعل من الصعب على كثيرين أداء هذه الفريضة!
وعليكم السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، مرحبًا بك أختنا الكريمة، وجزاكم الله خيرًا على طرح هذا السؤال المهم والمميز، ونسأل الله أن يبارك فيك، وأن يرزقنا وإياك العلم النافع والعمل الصالح، وبعد...
فإن سؤالك يراود كثيرًا من المسلمين الذين يواجهون تحديات مشابهة في فهم حكمة الله في شؤون العبادات. والحج هو الركن الخامس من أركان الإسلام، ويعد من أعظم العبادات التي يتقرب بها المسلم إلى الله سبحانه وتعالى، ويجمع بين العبادة الروحية والبدنية. فهو ركن من أركان الإسلام، كما جاء في حديث النبي ﷺ: «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت» [متفق عليه].
والحج ليس مجرد رحلة بدنية، بل هو تجربة روحية وتعبدية تتطلب استعدادًا فكريًّا وإيمانيًّا. وعلى الرغم من أن الحج فُرض على المسلم مرة واحدة في العمر حين الاستطاعة، فإن له من الفضل ما لا يُعد ولا يحصى، فقد قال النبي ﷺ: «من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه» [متفق عليه].
الحكمة من تخصيص الحج بأيام معينة:
أما بشأن تخصيص أيام معينة للحج، فإن هذه الحكمة تأتي من عدة جوانب إيمانية وتشريعية:
توحيد الأمة وتفاعلها:
الله -سبحانه وتعالى- قدّر الأمور بشكل عظيم ومنظم. لم يكن الحج ليُؤدى في أي وقت من السنة عشوائيًّا، بل حدد الله له وقتًا معينًا له خصوصيته، فيقول –عز وجل- في كتابه الكريم: ﴿وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ﴾ [الحج: 27].
فمن حكمة الله في ذلك، أن يجتمع أكبر عدد ممكن من المسلمين من جميع أنحاء العالم، في وقت واحد، ومكان واحد، على اختلاف ألوانهم، وأعراقهم، وألسنتهم، في صورة مبهرة تعكس وحدة الأمة الإسلامية تحت راية واحدة، ليلتقي المسلمون في شعائر واحدة وقلوب واحدة. وهذه صورة من أروع صور التآلف بين المسلمين.
تكثيف العبادة:
تحديد أيام معينة للحج يشير إلى أهمية الاستعداد النفسي والروحي قبل التوجه إليه. إنها فترة قصيرة جدًّا مقارنةً بعمر المسلم؛ لكنها تتطلب منه اجتهادًا مضاعفًا في العبادة. إنه امتحان لإرادة المؤمن وقدرته على التفرغ لله، والتأكيد على الطاعة الكاملة في هذه الأيام العظيمة.
وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الأيام بقوله تعالى: ﴿وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ﴾ [الحج: 27]، تعبيرًا عن تخصيص هذه الأيام بأعمال عبادية لا يمكن أن تكون في غيرها من أيام السنة.
مدرسة للصبر والتعاون
أما بخصوص الزحام والمشقة التي قد تصاحب الحج، فإن هذا ليس إلا جزءًا من الامتحان الإيماني. وقد قال سبحانه وتعالى: ﴿لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ﴾ [يونس: 14]، وقال: ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾ [هود: 7] فكما أن العبادة تتطلب التزامًا بالأوامر، فإن تحمل مشقة الزحام جزء من التضحيات التي يقدمها المسلم في سبيل إتمام فريضته.
إن كل لحظة من لحظات الحج هي امتحان للصبر، وللتعاون بين المسلمين، وكل خطوة يُخطوها المسلم في تلك الأرض المباركة هي خطوة نحو الإيمان، وقد جاء في الحديث الشريف: «من خرج حاجًّا لا يرفث ولا يفسق فإنما يرجع كيوم ولدته أمه» [متفق عليه].
قد تكون المشقة كبيرة؛ لكن كل تعب يمر به المسلم هو جزاء عظيم عند الله، فإذا وجد المسلم الزحام والتعب، فإنه يعوضه بجزائه العظيم من الله.
جهاد بالمال:
أما بالنسبة للأسعار المرتفعة التي قد تقف حاجزًا أمام البعض في أداء فريضة الحج، فإن هذا التحدي المادي يجب أن يحتسبه المسلم عند ربه جهادًا بماله، أي بابًا من أبواب الجهاد المتعددة، التي يؤجر المرء عليها حسب استطاعته، مع التذكير بأن شرط وجوب الحج الاستطاعة: بدنيًّا وماليًّا، فإن لم يتوفر للمسلم المال اللازم لحجه سقطت عنه الفريضة حتى يتيسر له المال لذلك، وهو في هذه الحالة غير ملوم ولا مقصر، وينبغي له ألا يحزن، وإنما عليه –فقط- أن يستحضر دائمًا النية للقيام بها، وأن يسارع إليها بمجرد توفر المال الكافي لأدائها. وهذا من تيسير الله على عباده ورحمته بهم.
وختامًا -أختنا الكريمة- إن تحديد أيام الحج، رغم ما قد يبدو في الظاهر من مشقة، هو في الحقيقة من حكمة الله العظيمة. هذه الأيام هي بمثابة محطة إيمانية يتجدد فيها العهد مع الله، وتحيا فيها القلوب بالتوبة والصلاح، وتُغفر الذنوب. ندعوه سبحانه أن يوفقنا وإياكم للحج المبرور، وأن يحقق لنا ولكم جميع ما نتمنى من خير في الدنيا والآخرة.