الإستشارة - المستشار : أ. فتحي عبد الستار
- القسم : إيمانية
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
71 - رقم الاستشارة : 1785
29/04/2025
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى آله أفضل الصلاة وأتم التسليم.
سؤالي هو: إذا كان هناك شخص أصابته شهوة ما، وهو ما بين الإقلاع عنها والإفراط فيها، وقد مضى عليه في ذلك سنون، وهو -مع كِبَرِ السِّن- لا ييأس من روح الله، بل هو على يقينٍ بأنه يريد أن يُقلِع عن شهوته تمامًا مخافةً من الله، ولكنه، لضعفه وقلة حيلته، يقع فيها ثم يتوب، ثم يقع فيها، وهكذا...
فإذا ما مات، هل سيُعذَّب في قبره ثم يدخل النار؟
أنا أعلم أن الأمر كله بيد الله، لكن ما السبيل إلى النجاة في هذه الحالة؟
زادكم الله خيرًا، ونفع بكم الأمة.
مرحبًا بك أيها الأخ العزيز، وأشكر لك مراسلتك لنا، وأعتز بثقتك الغالية، وأسأل الله لك الثبات على طاعته، وأن يرزقك التوبة النصوح، ويكتب لك سعادة الدنيا والآخرة، ويقيك عذاب القبر والنار، ويقر عينك برضاه ورضوانه، وبعد...
فأحسب أن سؤالك يصدر من قلبٍ حيٍّ يخشى الله، ويتقلب بين ضعفه البشري ورجائه في مولاه، متعثرًا أحيانًا، نادمًا كثيرًا، طامعًا دومًا في رحمة الله. وهذا من علامات الخير. فما أجمل أن يشعر العبد بعِظَم ذنبه! وما أكرم الله حين ينظر إلى عبده الضعيف المتألم وهو يقول: «يا رب، لا أريد أن أعصيك، ولكني أضعف»! وقد قال رسولنا الكريم ﷺ: «كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ، وَخَيْرُ الخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ» [رواه الترمذي].
هل التقلب بين المعصية والتوبة يُوجب العذاب؟
أخي الكريم، إن الله -سبحانه وتعالى- لا يُعذب عباده على مجرد الوقوع في الذنب؛ بل على الإصرار عليه دون توبة. فلو أنك كلما أذنبت ندمت واستغفرت، فإنك لا تزال في دائرة التوبة، ولا تزال على باب الله، والباب مفتوح. قال الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ، وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ، وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ [آل عمران: 135]. فلاحظ أن المعيار هو «عدم الإصرار»، لا «عدم الوقوع».
وقال -عز وجل- في حديث قدسي يرويه رسول الله ﷺ: «يا ابنَ آدمَ، إنَّكَ ما دعوتَني ورجوتَني غفرتُ لكَ على ما كانَ منكَ ولا أُبالي، يا ابنَ آدمَ، لو بلغَت ذنوبُكَ عَنانَ السَّماءِ ثمَّ استغفرتَني غفرتُ لكَ، يا ابنَ آدمَ، إنَّكَ لو أتيتَني بقُرابِ الأرضِ خطايا ثمَّ لقيتَني لا تُشرِكُ بي شيئًا لأتيتُكَ بقُرابِها مغفرةً» [رواه الترمذي].
فانظر إلى رحمة الله الواسعة التي لا تحدها خطيئة، ولا يُغلق تكرارُ الذنب بابَها، ما دامت التوبة صادقة.
إذًا، ليس كل من يقع في شهوة ثم يتوب، ثم يضعف، ثم يعود، هو ممن يُعذَّب في قبره أو في النار؛ بل هذا يرجع إلى حال قلبه، وصدق توبته، ومدى مجاهدته، ومدى رجائه وخوفه، وهل هو من المتهاونين أم من المنكسرين الخائفين.
هل الكبَر في السن مع التوبة يعطي أملاً في المغفرة؟
نعم، وبكل تأكيد، فقد قال رسول الله ﷺ: «مَنْ تابَ قبلَ أنْ تطْلُعَ الشمسُ مِنْ مَغْرِبِها، تابَ اللهُ عليْهِ» [رواه مسلم]. وقال الإمام النووي -رحمه الله- في شرح «صحيح مسلم»، باب قبول التوبة من الذنوب وإن تكررت الذنوب والتوبة، «لو تكرر الذنب مائة مرة أو ألف مرة أو أكثر، وتاب في كل مرة، قُبلت توبته، وسقطت ذنوبه، ولو تاب عن الجميع توبة واحدة بعد جميعها صحت توبته».
فما دام الإنسان يتوب بصدق، ويجاهد نفسه، فإن رحمة الله لا تنقطع عنه، ولو بلغ من العمر ما بلغ.
ما السبيل إلى النجاة؟
اعلم -يا أخي الكريم- أن النجاة -بإذن الله- تكون بهذه الأمور:
1- المحافظة على التوبة مهما تكررت السقطة:
إياك أن تيأس، فاليأس من رحمة الله أعظم خطرًا من الذنب ذاته.
قال تعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ، لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [الزمر: 53].
2- صدق المجاهدة:
قال الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [العنكبوت: 69]. فكل محاولة صادقة لضبط النفس، والأخذ بأسباب ذلك، وكل دمعة ندم، وكل صرخة: «يا رب نجني»، هي خطوات في درب النجاة.
3- البُعد عن أسباب ودواعي المعصية
فمن أعان نفسه على الابتعاد عن مواطن الفتنة، وأغلق أبوابها، وسدَّ نوافذها، أعانه الله ووفَّقه، وعوَّضه، قال النبي ﷺ: «إنَّك لن تَدَعَ شيئًا لله -عز وجل- إلا أبدلَكَ اللهُ به ما هو خير لك منه» [رواه أحمد].
4- الاستكثار من الطاعات والحسنات:
قال تعالى: ﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ﴾ [هود: 114]، فالإكثار من الصلاة، والصوم، وقراءة القرآن، والصدقة، وكثرة الاستغفار، وسائر الأعمال الصالحة، كلها أعمال تُكفِّر الذنوب، وتطهِّر النفوس.
5- الدعاء الدائم بالثبات:
فقد كان النبي ﷺ يكثر من قول: «يا مقلِّبَ القلوبِ ثَبِّتْ قلبِي على دينِك» [رواه الترمذي]،
فإن كان هذا دعاؤه ﷺ وهو المعصوم، فكيف بنا نحن؟!
وختامًا -أخي المبارك- ما دمت تسأل هذا السؤال، فإن قلبك على قيد الحياة، وإنك أقرب للنجاة مما تظن، لأنك تعترف بضعفك، وتلجأ إلى ربك، وتؤمن بأنه أرحم بك من نفسك.
ثِق تمامًا أن الله لا يرُد من أقبل عليه منكسرًا، ولا يخيِّب عبدًا وقف ببابه يرجو عفوه، والله أكرم من أن يخيِّب ظنَّ من أحسن به الظن.
وما هذه الحياة إلا ساحة مجاهدة، والله لا يريد منا الكمال بقدر ما يريد منا الصدق، والانكسار، والمحاولة، والرجوع الدائم إليه.
أسأل الله أن يرزقك توبةً نصوحًا، يمحو بها عنك كل ذنب، وأن يجعل خاتمتك حسنة، وقبرك روضة من رياض الجنة، وأن يرضى عنك فيرضيك، وينجيك يوم الدين، فهو أرحم الراحمين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وتابعنا بأخبارك.