الإستشارة - المستشار : أ. فتحي عبد الستار
- القسم : إيمانية
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
68 - رقم الاستشارة : 1579
11/04/2025
أنا دايمًا بسمع عن مرتبة الإحسان اللي النبي ﷺ اتكلم عنها في حديث جبريل، وقال فيها إن الإحسان هو "أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فهو يراك"، بس الصراحة، وسط دوشة الدنيا والهموم اللي مش بتخلص، بحس إني بعيد قوي عن المعنى ده.
فإزاي أقدر أوصل للدرجة دي من القرب من ربنا؟
إزاي أعيش فعلاً بالإحساس ده، مش مجرد كلام؟
وإيه الخطوات أو العبادات اللي ممكن تساعدني أتهذب وأرقى روحيًا عشان أوصل للحالة دي من الصفاء والمراقبة؟
مرحبًا بكِ أيتها الطيبة، وحيَّاكِ الله وأكرمكِ، وجزاكِ الله خير الجزاء على رسالتكِ، وعلى هذه الثقة الطيبة التي وضعتِها فينا، نسأل الله أن يجعل لكِ من كل همٍّ فرجًا، ومن كل ضيقٍ مخرجًا، وأن يشرح صدركِ، ويجعل لكِ في الطريق نورًا وهدى، وأن يرزقكِ لذة القرب منه، والطمأنينة بجواره، والأنس بذِكْره.
الإحسان مقام العارفين
ما أجمل سؤالكِ، وما أرقى مقصدكِ! لقد سألتِ عن الإحسان، وهو مقام العارفين، وغاية المشتاقين، ومرتقى السالكين. ومن منَّا لا يريد أن يصل إلى تلك الدرجة التي تكون فيها العبادة حالًا لا مجرد أداء، وشهودًا لا مجرد حضور، وحبًّا لا مجرد تكليف؟
لقد جاء تعريف الإحسان في حديث عظيم الشأن، يُعَد من أهم الأحاديث النبوية، ألا وهو حديث جبريل -عليه السلام- حين أتى النبي ﷺ في صورة رجل يسأله عن الدين، فقال في جوابه عن الإحسان: «أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك» [متفق عليه].
فانظري –أختي الكريمة- كم في هذا الجواب النبوي من نورٍ وهداية! فالإحسان مقامٌ سامٍ، يقوم على المراقبة والمشاهدة، فإن وصلتِ إلى حال «كأنكِ ترينه»، فهذه حال المشاهدة، وهي أرفع، وإن لم تصِلي إلى هذه، فأدنى الإحسان هو أن تعبدي الله على أساس «فإنه يراكِ»، وهذا هو مقام المراقبة، وفيه خيرٌ كثير، وبركةٌ عظيمة، وسكينةٌ لا تضاهى.
بين زحام الدنيا وشوق القلوب
أفهمكِ تمامًا، وأشعر بما في قلبكِ من شوقٍ يمتزج بالحيرة، وسعيٍ يتخلله التعب. فالدنيا تملأ سمعنا وبصرنا، والهموم تكدِّر النفس، وتُضعف الشعور بالحضور مع الله، وتُبعد القلب عن الصفاء والخشوع. لكن اعلمي يقينًا أن الله –سبحانه- يعلم تقلب قلبكِ، ويحب سعيكِ نحوه، فما دمتِ تسألين عن الإحسان وتبحثين عنه، فأنتِ على خيرٍ عظيم، وطريقكِ موصولٌ إن شاء الله؛ لأن الله قال: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾ [العنكبوت: 69].
كيف نصل إلى مقام الإحسان؟
السؤال الذي تطرحينه هو لبُّ السير إلى الله، ولا سبيل للوصول إليه إلا بصدق العزيمة، واستمرار التزكية، والتدرج في تهذيب النفس والروح، وإليكِ هذه الخطوات التي تعينكِ بإذن الله:
1- الصدق مع الله:
البداية الحقيقية دائمًا من الصدق، أن تصدقي في نيتكِ وتوجُّهكِ، وتفتحي لله قلبكِ دون تكلُّف. قولي له: «يا رب، أنا لا أملك قلبي، لكنه بين يديك، فقرِّبه إليك»، وستجدين آثار هذه المناجاة في روحكِ.
2- كثرة الذِّكر:
لا شيء يُنعش القلب ويوقظه مثل ذكر الله، فهو الغذاء الروحي، والسراج الذي يضيء العتمة. قال الله تعالى: ﴿أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ [الرعد: 28]، فخصصي وقتًا كل يوم، تردِّدين فيه الأذكار، خصوصًا: «لا إله إلا الله»، و«سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم»، و«أستغفر الله»، و«اللهم صلِّ على محمد وآل محمد».
3- قيام الليل:
الليل فرصة القُرب، ومحل التجلي. كان النبي ﷺ يقول: «عليكم بقيام الليل، فإنه دأب الصالحين قبلكم، وقُربة إلى ربكم، ومكفرة للسيئات، ومنهاة عن الإثم» [رواه الترمذي]. وتكفيكِ ركعتان -إن لم تستطيعي أكثر- في سكون الليل، مستشعرة نظر الله إليكِ.
4- مناجاة الله:
لا تكتفي بالدعاء المأثور المحفوظ، بل تحدثي مع الله كما تتحدثين مع أمكِ أو صديقةٍ قريبة، قولي له ما يؤلمكِ، وما يشغلكِ، وما يحلم به قلبكِ.
5- صحبة صالحة وبيئة إيمانية:
من أعظم ما يعينكِ على الصفاء، أن تحيطي نفسكِ بصحبة تذكِّرك بالله إذا نسيتِ، وتشجعكِ إن فترتِ، فالنفس تتقوَّى بالجماعة، وتهبط إذا انعزلت. قال الله تعالى: ﴿واصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ والْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وجْهَهُ ولا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا ولا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا واتَّبَعَ هَوَاهُ وكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾ [الكهف: 28]. وقال النبي ﷺ: «المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يُخالِل» [رواه أبو داود].
6- تدبر القرآن:
لا تجعلي علاقتكِ بالقرآن مجرد تلاوة، بل اجعليها جلسة حب وفهم وتدبُّر، افتحي المصحف وكأن الله يخاطبكِ، وتأملي في كل آية، قولي: يا رب، ما الذي تريد أن تقوله لي الآن؟ قال تعالى: ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ﴾ [ص: 29].
وختامًا -أيتها النقية- إن مقام الإحسان ليس بعيدًا، بل هو أقرب إليكِ مما تظنين؛ لأن الله أقرب إليكِ من حبل الوريد. لا تيأسي من تعثرات الطريق، ولا تحزني إن شعرتِ يومًا بالبعد، فكل خطوة صادقة هي قُربة، وكل لحظة صدق مع الله هي سُلَّم إلى نور الإحسان.
وثقي بأن الله يراكِ، ويرى دمعتكِ حين تسجدين، ويرى قلبكِ حين يضطرب. ولعل هذه المشاعر التي كتبتِها هي بداية فتح عظيم، فلا تتركي هذا الباب، وأكثري من الدعاء: «اللهم اجعلني من المحسنين، وقرِّبني إليك، ولا تجعلني من الغافلين».
أسأل الله أن يمنَّ عليكِ بالصفاء والنقاء، وأن يملأ قلبكِ نورًا ورضًا، وأن يبلغكِ مقام الإحسان، وأن يريكِ وجهه الكريم يوم اللقاء، وأنتِ راضية مرضيَّة.