<p>ظاهرة الانتحار تتزايد في المجتمعات الحديثة.. فهل هناك ارتباط بين الانتحار والحداثة؟ وهل تغييب وجود الخالق سبحانه من أفكار الناس يدفعهم إلى اليأس من العدل في الارض؟</p>
الارتباط بين الحداثة والانتحار سؤال شغل العديد من المراكز البحثية الغربية والعلماء منذ قرن ونصف تقريبًا، وتحديدًا منذ أن أصدر عالم الاجتماع الفرنسي الشهير "إميل دوركايم" كتابه "الانتحار" عام 1897م، أخذ النظر والبحث في ظاهرة الانتحار من كونها خطيئة لربطها بالتحديث والتطورات في المجتمعات الأوروبية الصناعية، ومنذ ذلك التاريخ والأبحاث المتعلقة بالانتحار تسير في هذا الاتجاه، وهو أن التحديث والتقدم الصناعي مسئول بدرجة كبيرة عن ارتفاع معدلات الانتحار.
ولكن اسمح لي قبل بيان العلاقة بين التحديث والانتحار، أن نشير إلى معدلات الانتحار العالمية في السنوات الأخيرة، فآخر التقارير ومنها تقارير منظمة الصحة العالمية أكد أن عدد المنتحرين في العالم يزيد على السبعمائة ألف شخص كل عام، لكن الغريب أن حالات الانتحار كانت أقل في أوقات الحروب منها في أوقات السلم، أي أن الحرب شكّلت مانعًا أمام اللجوء للانتحار.
وأشارت التقارير إلى أن "جريلاند" التي تعد أكبر جزيرة في العالم وتتبع مملكة الدنمارك هي الأعلى في معدلات الانتحار في العالم؛ إذ ينتحر 60 شخصًا من كل مائة ألف، أما أقل دولة الانتحار في العالم فهي فلسطين، وتمثل النسبة واحدًا تقريبًا من كل مائتي ألف.
نــــعود إلى كتاب "دوركايم" عن الانتحار، والذي ذكر فيه أن الشخص الأكثر اندماجًا في المجتمع هو الأقل لجوءًا للانتحار؛ لأن مستوى التواصل والاندماج الاجتماعي يشكل مانعًا للشخص من الانتحار.. أما علاقة الانتحار بالتحديث فأشار إلى أن عدم الاندماج الاجتماعي قد يكون من أهم دوافع الانتحار؛ لأن الاندماج الاجتماعي يقوي شعور الانتماء، وينشئ أسبابًا مقنعة للاستمرار في الحياة يقل معها احتمال الانتحار.
لكن الحداثة صاحبها الانتحار كما أكد "دوركايم" ومن تبعه من علماء الاجتماع الذين درسوا الظاهرة؛ فتراجع الأشكال التقليدية التي كان يتفاعل فيها الفرد سواء في الأسرة أو دور العبادة أو محيط المجتمع وتقلص روابطه الاجتماعية، وإيمان الفرد أن قراراته نابعة من ذاته من أجل منفعته ولذته، قوّى الفردانية التي آثرت العزلة على الاندماج الاجتماعي.
ومع تفكك الروابط العائلة والأسرية تحت وهم تحقيق الحرية، كانت العزلة ثمنًا للحرية، وكان الانتحار هو وسيلة للخروج من حصار العزلة، فكان ثمنًا باهظًا؛ فالسعادة الوهمية في العزلة ما تلبث أن تتلاشى ليجد الإنسان نفسه في مواجهة ذاته الخاوية من الإيمان واليقين والمشبعة باليأس والخواء الروحي.
وقد شاع أن معدلات الانتحار العالية دليل على عمليات التحديث والتقدم، وحسب دوركايم فإن الفرد قد يكون أكثر حرية لكنه يكون أكثر وحدة، فثمن الاستقلال كان العزلة، وتلك العزلة أرضية خصبة لنمو الأفكار الانتحارية؛ فالاندماج الاجتماعي والتواصل ينشئ التزامًا أخلاقيًّا عند الفرد باحترام الحياة وتقديسها.
يشير عالما الاجتماع الفرنسي "كريستيان بودلو" و"روجر استابليه" في كتابهما "الانتحار الجانب الخفي للحداثة" الصادر 2008م إلى تصاعد معدلات الانتحار في مجتمعات غير أوروبية تتزايد فيها معدلات التحديث مثل الهند والصين وكوريا الجنوبية، وحسب تعبيرهما فإن تلك البلاد دخلت في موجة التحديث الوحشي.
أما "آن كيس" وزوجها الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد "أنجوس ديتون" فأكدا في كتابهما "وفيات اليأس ومستقبل الرأسمالية" الصادر 2020م عن انحدار المجتمع وتفكك الأسرة وزيادة الإدمان والانتحار.