<p>ما علاقة الطب بالفقه في الحضارة الإسلامية؟ وهل كان للفقهاء اهتمام بالطب في تلك الحضارة؟</p>
عرفت الحضارة الإسلامية الاهتمام بالعلوم الطبيعة جميعًا، وكان المسلمون في العصر الوسيط هم أكثر أهل الأرض علومًا وإنتاجًا للمعرفة، وبحثًا واكتشافًا، وحرصًا على التداخل بين العلوم، وأن تثمر العلوم فيما بينها رؤى جديد فيها النفع للإنسان، وهو ما أكده "ابن الجوزي" في كتابه "صيد الخاطر" بقوله: "وعلى الفقيه أن يطالع من كل فن طرفًا من تاريخ وحديث ولغة وغير ذلك، فإن الفقه يحتاج إلى جميع العلوم، فليأخذ من كل شيء منها، فينبغي لكل ذي علم أن يُلم بباقي العلوم، فيطالع منها طرفًا، إذ لكل علم بعلم تعلق".
أما ما يتعلق بسؤاكم حول اهتمام الفقهاء بالطب فكان موجودًا ومتقدمًا؛ نظرا للتداخل بين الفقه والطب في الكثير من المسائل المتعلقة بالأحكام الشرعية التي تستند إلى الجانب الطبي مثل: الطهارة للمرأة، وسن البلوغ، وصيام المريض، وأحكام المريض الشرعية ورأي الطب المهم في هذا الجانب والذي يبني عليه الفقيه فتواه، ومسألة الموت وما يرتبط بها من مسائل الميراث، وكذلك الديات.
ولذلك لم يكن غريبًا أن يبادر أحد فقهاء الحنفية، وهو "ابن تاج الدين" (ت:1060هـ) إلى تأليف كتاب أسماه "أحكام المرضى" جمع فيه المسائل المتعلقة بالمرضى في الفقه، وذلك حتى يلم بها طلاب العلم بتلك المسائل المتناثرة في كتب الفقه، وقد صدر الكتاب محققًا في أكثر من (390) صفحة.
الأمر الآخر أن الحضارة الإسلامية كان لها منظور كُلي للإنسان لا تفرق فيه بين الجسد والروح، وتراهما يشكلان الإنسان؛ فالإنسان ليس مادة فقط يمكن علاجها، ولكنْ هناك روح ولها أسرارها ومفاتيحها الواجب فهمها، ولذا وجدنا قديمًا أن الكثير من الفلاسفة في الحضارة الإسلامية جمعوا بين الفلسفة والطب، على اعتبار أن الفلسفة تعالج الروح والطب يعالج البدن، وهو ما يقتضي التكامل بين هذين المجالين المعرفيين، ولهذا كان الطبيب يسمى في كثير من الأرياف من عقود بـ"الحكيم".
الأمر الثالث: أن من الميزات المهمة للتداخل بين الفقه والطب في الحضارة الإسلامية، هي مقاومة الخرافة والشعوذة والتنجيم والدجل فيما يتعلق بعلاج المرضى، الذين قد يلجأ بعضهم إلى تلك الخرافات رغبة في الشفاء، وقد استطاع الفقه أن يسد هذا الباب الكبير من الشر والانحراف العقائدي بأحكامه الواضحة الجلية، مؤكدًا للناس ضرورة التماس أسباب الشفاء من خلال العلم والمعرفة وليس باللجوء إلى الخرافة والشعوذة والسحر.
ومن يطالع الرسالة العلمية التي أعدتها الباحثة "هاجر عبد الحكيم" عن "دور السحر والدين في الطب المصري القديم" سيكتشف حجم حضور السحر في عمليات العلاج، وكيف احتكر كهنة المعابد مسألة العلاج والشفاء، فسيطروا على أجساد الناس وأرواحهم وعقولهم، وهو ما أشار إليه –أيضًا- الأب شحاتة قنواتي في كتاب "تاريخ الصيدلة والعقاقير: في العهد القديم والعصر الوسيط" حيث ذكر أن هناك كتبًا متوارثة في مجال الشعوذة والسحر كانت تستخدم في المجال العلاجي والطبي.
ومن الطريف أن نعرف أن الإمام الشافعي عُرف عنه درايته بالطب والتشريح، وكان يصف الطب بالعلم النبيل، فيقول: "العلم علمان: علم الدين وعلم الدنيا؛ فالعلم الذي للدين هو الفقه، والعلم الذي للدنيا هو الطب... ولا أعلم بعد الحلال والحرام أنبل من الطب، إلاَّ أنّ أهل الكتاب قد غلبونا عليه"؛ لذا كان ينصح أن يبحث المسلم عمن يفتيه في أمر بدنه، كبحثه عمن يفتيه في أمر دينه.
وتحدث بعض الفقهاء أن علم التشريح يقرب الإنسان من الإيمان، وإدراك عظمة الخالق-سبحانه وتعالى- مثل "أبو حامد الغزالي" في كتابه "الحكمة في مخلوقات الله" والذي تحدث فيه عن التشريح، أو كتابه "المنقذ من الضلال" الذي يقول فيه: "الطبيعيون، وهم قوم أكثروا بحثهم عن عالم الطبيعة، وعن عجائب الحيوان والنبات، وأكثروا الخوض في علم تشريح أعضاء الحيوانات، فرأوا فيها من عجائب صنع الله تعالى وبدائع حكمته، مما اضطروا معه إلى الاعتراف بفاطر حكيم، مطلع على غايات الأمور ومقاصدها".
وقد استخدم الإمام "الفخر الرازي" في تفسيره للقرآن معرفته الواسعة بالطب والتشريح لإثبات قدرة الله وحكمته، وكذلك الفقيه والقاضي والفيلسوف "أبو الوليد بن رشد" الذي وضع كتابين، أحدهما، من أهم كتب الطب القديم وهو "الكليات"، والآخر من أهم كتب الفقه وهو "بداية المجتهد ونهاية المقتصد"، وكان يقول: "من اشتغل بالتشريح ازداد إيمانًا بالله"، أما الطبيب الشهير "ابن النفيس" مكتشف الدورة الدموية، فكان من فقهاء الشافعية، وله مصنفات، منها شرحه لكتاب "التنبيه" للإمام الشيرازي، الذي يعد من متون المذهب.