ما علاقة الأفكار المادية بالاكتئاب؟

<p>هل هناك علاقة بين الأفكار والمشكلات النفسية، فمثلا في ظل الفلسفة الداعية المادية يتفشى الاكتتاب؟</p>

يظن البعض أن الأفكار لا تؤثر في حياتنا، أو أن الأفكار لا تمنحنا السعادة، أو حتى بعض الشقاء.

 

غير أن هذه الفكرة غير صحيحة، فالنعيم والسعادة والشقاء وإن كان له أسباب خارجية مادية، فإن داخل الإنسان يظل هو الأهم.

 

تشير بيانات منظمة الصحة العالمية إلى أن حوالي 280 مليون شخص يعانون من الاكتئاب في العالم، أي نحو 3,8٪ من سكان العالم يعانون الاكتئاب.

 

والاكتئاب، كما يعرفه علم النفس، بأنه اضطراب نفسي ينطوي على تكدّر المزاج أو فقدان الاستمتاع أو الاهتمام بالأنشطة لفترات طويلة من الزمن.

 

هذا الاكتئاب يمكن أن يؤثر على جميع جوانب الحياة، بما في ذلك العلاقات بين أفراد الأسرة والأصدقاء والمجتمع.

 

والحقيقة أن المجتمع الإنساني أمام أزمة كبيرة بسبب الاكتئاب؛ فالاكتئاب له تأثير سلبي على الحياة الاقتصادية، ونشير هنا إلى أن الكلفة الاقتصادية للاكتئاب في الولايات المتحدة تعادل (382) مليار دولار عام 2023م، وهو مبلغ ضخم للغاية؛ فالفرد المكتئب يكلف أكثر من (16) ألف دولار سنويًّا.

 

ولكن ما علاقة الفكر المادي بانتشار الاكتئاب، ولماذا ترتفع معدلات الاكتئاب في المجتمعات المادية؟

 

يشير عالم النفس الأمريكي الشهير "تيم كاسر"، الذي خصص جزءًا كبيرًا من أبحاثه ودراساته لنقاش العلاقة بين المادية والرفاهية النفسية، وأصدر عددًا من الكتب، منها كتابه "الثمن الباهظ للمادية"، إلى أن هناك وشائج للصلة بين القيم المادية والاكتئاب والشقاء النفسي.

 

يؤكد "كاسر" أن "الأبحاث تشير إلى أنه كلما زاد تقدير الناس للطموحات المادية كأهداف، انخفضت سعادتهم ورضاهم عن الحياة، وانخفضت المشاعر الممتعة التي يمرون بها يوميًّا، وأن الاكتئاب والقلق وإدمان المخدرات يميلان إلى الارتفاع بين الأشخاص الذين يُقدّرون الأهداف التي يشجعها المجتمع الاستهلاكي".

 

المجتمعات المادية الاستهلاكية تشجع حسب "كاسر" على أربع قيم، هي: المصلحة الذاتية، والرغبة الشديدة في النجاح المالي، وارتفاع معدلات الاستهلاك، وسيادة المنافسة بين أفراد المجتمع.

 

وأشار "كاسر" إلى أن هناك تذبذبًا متأرجحًا بين الاهتمامات المادية من جهة، والقيم الاجتماعية كالتعاطف والكرم والتعاون من جهة أخرى: فكلما ارتفعت الأولى، انخفضت الثانية، وكلما زاد شعور الناس بعدم الأمان، زاد تركيزهم على الأشياء المادية، ورغم أن المادية تَعِد بالرضا، لكنها تُؤدي بدلاً من ذلك إلى استياء أجوف، وتُولّد المزيد من الشغف بالاستحواذ على الأشياء المادية والانغماس في الاستهلاكية، ليتحول إلى حالة إدمانية، ودوامة لا تنتهي.

 

هذا الرأي تؤكده كذلك دراسات غربية، من بينها دراسة نشرت عام 2022م، أكدت أن القيم المادية تساعد في الحفاظ على رأسمالية الاستهلاك، وهذا يترك عواقب وآثارًا سلبية على رفاهية الفرد النفسية، وله تأثيراته السلبية على البيئة، وأكدت الدراسة أن الأدلة تشير إلى أن وضع أهمية كبيرة على اكتساب المال والسلع المادية قد يكون مرتبطًا أيضًا برفاهية شخصية أسوأ.

 

المادية تجعل الشخص ينصرف إلى تحصيل المكاسب المادية لأنها في اعتقاده السبب الرئيسي وربما الوحيد للسعادة، ومن ناحية أخرى يعتقد هذا الشخص أن امتلاك الأشياء المادية أوضح دليل على النجاح في الحياة، وهو ما يزيد شغفه ونهمه نحو التملك.

 

المقاييس المادية ترتكز على ثلاثة مكونات فرعية، هي: مركزية الاستحواذ أو التملك وعندها يصبح الامتلاك هدفًا رئيسيًّا للحياة، واعتبار الامتلاك معيارًا للنجاح للذات والآخرين، والاعتقاد أن الاستحواذ هو ما يحقق السعادة.

 

والشاهد أن الوقاية الحقيقية من الاكتئاب ليس بالانغماس في المادية والاستهلاكية، ولكن الوقاية تتأتى من تقليل الارتباط بالمادية، وتقليل التعلق بعالم الأشياء، لذلك قيل: "لا يعذب الروح ويُشوّش القلب شيء بقدر التعلق! فالتعلق شعور بالنقص".

 

أما ابن الجوزي في كتابه "صيد الخاطر" فنصح بالابتعاد عن الماديين، وعن محافل المادية المتمثلة في الأسواق، وقال في نصيحته: "فالبعد البعد عمن همته الدنيا.. فإن من له قلب إذا مشى في الأسواق وعاد إلى منزله تغير قلبه".