<p>أنا رجل في منتصف الأربعينات من عمري، متزوج، وأب لعدة أبناء. أعترف بأن شبابي لم يكن كما ينبغي؛ فقد اقترفت فيه ذنوبًا كثيرة، بعضها كان من الكبائر، لكنني -ولله الحمد- قد تبت إلى الله توبة صادقة من معظمها، وسلكت طريق الالتزام منذ سنوات، خصوصًا بعد الزواج وبدء مسؤوليتي كأب، وأصبحت حريصًا على الصلاة، وقراءة القرآن، وتربية أولادي على طاعة الله، واجتناب المعاصي قدر استطاعتي.</p> <p>لكن تبقى في حياتي بعض الصغائر التي ما زلت أضعف أحيانًا أمامها، وأجتهد في مجاهدة نفسي فيها، وأرجو أن يغفر الله لي تقصيري.</p> <p>مشكلتي أن فكرة الموت لا تفارقني مؤخرًا، وخصوصًا حضور ملك الموت فجأة. أشعر أحيانًا، حين أكون في سريري ليلاً أو حين أختلي بنفسي، أنني على وشك الرحيل، وأتساءل: "هل سأُقبَض الآن؟ هل أنا مستعد فعلاً للقاء الله؟ كيف سيكون موقفي إذا جاؤوا لانتزاع روحي؟".</p> <p>ويتحول هذا الشعور أحيانًا إلى قلق ثقيل، يخنقني، خصوصًا إذا تذكرت ذنوبي القديمة، أو نظرت في حال قلبي الذي لم يكتمل صفاؤه بعد، رغم كل التوبة والاجتهاد.</p> <p>أنا لا أريد أن أعيش غافلًا، لكنني أيضًا لا أريد أن يتحول الخوف إلى هاجس يفسد عليَّ الطمأنينة، ويجعلني أعيش في توتر دائم، وأنا في أمسِّ الحاجة إلى الثبات، لأجل نفسي وأولادي.</p> <p><span dir="RTL">فكيف أتعامل مع هذه المشاعر؟ وهل خوفي هذا طبيعي ومحمود؟ أم أنه من وساوس الشيطان؟</span></p>
مرحبًا بك أيها الأخ الكريم، وبارك الله فيك، وشكرًا جزيلًا لك على تواصلك معنا، وثقتك الغالية التي نعتز بها، ونسأل الله تعالى أن يرزقك سكينة القلب، ونور البصيرة، وحسن الخاتمة، وأن يجعل ذريتك قرة عين لك في الدنيا والآخرة، وبعد...
فأحييك بدايةً على صدقك وجرأتك في مصارحة النفس، فهذا بحد ذاته علامة حياة قلبك، ولعل من أعظم أسباب الفرج في مثل هذه الحالات أن يبثَّ العبد مشاعره إلى من يُحسن الظنَّ به، ويطلب منه النصيحة، فهذا من الافتقار الصادق إلى الله عبر خلقه، وهو صورة من صور التواضع والتوبة والاعتراف، التي يحبها الله تعالى من عباده.
حين يفيق القلب:
كلُّ إنسانٍ يمرُّ بلحظة في حياته يفيق فيها قلبه من سكرة الغفلة، ويستشعر الحقيقة التي لا فرار منها: أن هذا الطريق الذي نسير فيه جميعًا، نهايته بابٌ يُفتح على الآخرة، وأن الموكب لن يتوقف حتى يبلغ ذلك الباب. كثير من الناس تمرُّ بهم هذه اللحظة، لكن قلة هم من يقفون عندها، ويعيدون النظر، ويتخذون قرار التغيير.
وأنت -يا أخي- من هؤلاء القلَّة الذين استجابوا لنداء الفطرة، وتداركوا أنفسهم قبل فوات الأوان. هذا وحده نعمة عظيمة، ومنحة ربانية تستحق أن تخرَّ لله ساجدًا شكرًا عليها في كل حين. فقد قال رسول الله ﷺ: «التائب من الذنب كمن لا ذنب له» [رواه ابن ماجة وصححه الألباني]، وهذا يعني أن صفحتك القديمة قد مُحيت، وأنك اليوم تبدأ من جديد، بروح أنقى، وقلب أشد حذرًا، وعقل يحمل خبرة التجربة، ومهابة الموقف.
الخوف من الموت.. هل هو طبيعي؟
نعم يا أخي، ما تشعر به طبيعي جدًّا، بل أكثر من ذلك: هو محمود ومطلوب شرعًا، إذا بقي في حدِّه المتوازن.
فالخوف من الموت ليس دليل ضعف إيمان، بل قد يكون أثرًا من آثار التوبة الصادقة، فالقلب بعد أن ذاق لذّة القرب من الله، لا يطيق أن يُفاجأ بلقاء ربه وهو ناقص الاستعداد، وهذا الخوف –في جوهره- غيرة إيمانية على حسن الخاتمة، وحرص على ألا يعود المرء إلى سابق ذنوبه، أو يُختم له على غفلة. وقال الله تعالى في وصف أوليائه: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ﴾ [المؤمنون: 60]. فهم يعملون الأعمال الصالحة، ومع ذلك قلوبهم خائفة من ألا تُقبل، وهذا الخوف لم يُذمّه الله، بل امتدحه!
لكن ينبغي التفريق هنا بين الخوف المحمود الذي يدفع إلى الطاعة، ويزيد من التعلق بالله، والخوف المذموم الذي يتحول إلى وسواس، فيعطّل المرء عن السير، ويرهقه نفسيًّا، ويصيِّره يائسًا أو قانطًا، وهذا لا يرضاه الله لعباده أبدًا.
كيف نتعامل مع هذا القلق؟
تأمل معي هذا المقطع من الحديث القدسي الذي رواه النبي ﷺ عن ربه عز وجل: «أنا عند ظنِّ عبدِي بي إنْ ظنَّ خيرًا فلهُ، وإنْ ظنَّ شرًّا فلهُ» [رواه ابن حبان وصححه الألباني].
فاجعل قلبك مليئًا بالثقة في الله، وحسن الظن به، وقل لنفسك دائمًا: أنا عبدٌ أذنبتُ، ثم تبتُ، والله توابٌ رحيمٌ، وقد وعدني بالمغفرة إن أنا صدقتُ، وأنا الآن صادقٌ في توبتي، والله أكرم من أن يردّ من عاد إليه.
وأذكِّرك بقول الله تعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ ٱلَّذِينَ أَسْرَفُوا۟ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا۟ مِن رَّحْمَةِ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعًاۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ﴾ [الزمر: 53].
فافتح صدرك لهذه الآية، واجعلها سكنًا لقلبك، ورددها في خلوتك، فإنها نزلت في التائبين أمثالك، الذين «أسرفوا»، ثم عادوا.
ومع حسن الظن، استعن أيضًا بالعمل الصالح، وركِّز على عمود العبادة: الصلاة، ثم القرآن، ثم حسن الخلق، ثم التوبة المتجددة.
واحذر من الدخول في دوامة جلد الذات، أو تكرار السؤال: "هل توبتي مقبولة؟ هل أنا مستعد؟ هل سيُغفر لي؟"؛ لأن هذا النوع من التفكير ليس من باب الخوف المحمود، بل هو ذريعة الشيطان لسرقة الطمأنينة منك. فإنه لا يجتمع صدق التوبة، والحرص على الطاعة، مع قنوط يائس يخنق القلب، ويُقعده عن السير.
ماذا تفعل حين يراودك هذا الشعور ليلًا؟
حين يراودك هذا الشعور في سريرك ليلًا، فافعل كما كان يفعل النبي ﷺ: توضأ وصلِّ ركعتين، فقيام الليل فيه دواء للقلق والهمّ. اجعل هذا الدعاء وردًا لك: «اللهم إني أسألك نفسًا مطمئنة، تؤمن بلقائك، وترضى بقضائك، وتقنع بعطائك». وقل أيضًا كما في الحديث: «اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك، وتحوّل عافيتك، وفجاءة نقمتك، وجميع سخطك» [رواه مسلم]. واذكر الله حتى يهدأ قلبك، فإنَّ ذِكر الله يطرد وساوس الشيطان، ويضيء زوايا النفس: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا۟ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ ٱللَّهِۗ أَلَا بِذِكْرِ ٱللَّهِ تَطْمَئِنُّ ٱلْقُلُوبُ﴾ [الرعد: 28].
لا تنسَ دورك كأب:
من أجمل ما في رسالتك وعيك بأنك قدوة، وأن عليك مسؤولية تربية أولادك. فاعلم أن خوفك من الموت، إذا قمت بتوجيهه توجيهًا سليمًا، سيكون طاقة روحية تربوية عظيمة، تجعل قلبك حاضرًا معهم، وتجعل كلمتك أصدق، وأفعالك أنقى.
حين يخاف الأب من لقاء ربه، فإنه يُحسن لنفسه، ولمن حوله؛ لأنه يعيش كل لحظة وكأنها الأخيرة، فيصبح أقرب إلى أولاده، وأحنَّ عليهم، وأكثر صدقًا في نصحهم.
الثبات هو غاية السالكين
دعني أقولها لك بصدق، يا أخي: لا يوجد أحدٌ مستعد تمامًا للموت، ولا يوجد مَن يكمل الإعداد كما ينبغي. نحن نرجو رحمة الله، ونعمل ما استطعنا، ثم نسأل الله الثبات والقبول.
قال النبي ﷺ: «سددوا وقاربوا، وأبشروا» [رواه البخاري]، أي ابذلوا الجهد في السداد، وإن عجزتم فاقتربوا منه، ثم أبشروا، أبشروا بالقبول والمغفرة.
تذكّر -أخي الفاضل- أن الله لا يريد منا الكمال، بل يريد الصدق في السعي إليه، فإن صدقنا تولَّانا بلطفه، وقادنا إليه، ورعى قلوبنا حتى نلقاه.
لقد أكرمك الله بأن ردَّك إليه، وألهمك التوبة، وجعل في قلبك وعيًا وخوفًا وصدقًا، فلا تُحزن نفسك، ولا تستسلم لهذا الهاجس، بل اجعله بابًا جديدًا لمزيد من القرب، ونافذة نور تطل بها على الآخرة، لا لتخاف، بل لتستعد بحب، ورضا، وثقة.
فأنت على الطريق، والموفَّق من ثبَّته الله، ونحن نرجو لك الثبات والطمأنينة، وأن يكتبك الله من عباده المحسنين، الذين يُقال لهم عند موتهم: ﴿يَـٰٓأَيَّتُهَا ٱلنَّفْسُ ٱلْمُطْمَئِنَّةُ * ٱرْجِعِىٓ إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةًۭ مَّرْضِيَّةًۭ * فَٱدْخُلِى فِى عِبَـٰدِى * وَٱدْخُلِى جَنَّتِى﴾ [الفجر: 27– 30].
وختامًا -أخي الكريم- أبشِّرك بأن من صدق مع الله، فإن الله أصدق منه، وأحن عليه من نفسه، وهو أرحم به من أمه. ثبتك الله، وطمأن قلبك، وجعلك وأهلك من المقبولين.