دم الأضحية يُفقد ابنتي الوعي سنويًّا.. كيف أتدارك الأمر؟!

<p>السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،</p> <p>أنا أم لطفلة عمرها ١٣ عامًا، وهي &ndash;بفضل الله&ndash; فتاة طيبة وحنونة وحساسة جدًّا، وملتزمة في صلاتها ومتفوقة في دراستها، لكنها تعاني منذ عدة سنوات من حالة شديدة من الاضطراب النفسي مع اقتراب عيد الأضحى<span dir="LTR">.</span></p> <p>ابنتي، منذ أن كانت في السابعة من عمرها، تتأثر بشدة عند رؤية مشهد ذبح الأضاحي، سواء على التلفاز أو في الواقع، لدرجة أنها تتقيأ وتفقد وعيها أحيانًا، وقد حدث ذلك أكثر من مرة في السنوات السابقة، ومع ذلك يُصر والدها وجدها على اصطحابها معهم يوم العيد لحضور نحر الأضاحي، بحجة أنها يجب أن تعتاد المشهد، وتتعلم شجاعة النفس، وأن هذا جزء من الدين يجب ألا تنفر منه، بينما هي تبكي وتتوتر من الآن مع اقتراب العيد، وتشعر برعب شديد وتكرر أنها لا تحتمل هذا المشهد<span dir="LTR">.</span></p> <p>أنا كأم قلبي يتقطع عليها، وأشعر أن إصرار والدها وجدها يؤذيها نفسيًّا، ويترك أثرًا سيئًا داخلها. هي لا تعترض على فكرة الأضحية من حيث هي عبادة، لكنها لا تحتمل مشهد الدم والذبح، وتشعر بعدها بأيام من الحزن والكوابيس<span dir="LTR">.</span></p> <p>فأنا الآن حائرة بين رأي والدها الذي يرى أن الأمر طبيعي وضروري، وبين مشاعري كأم ترى ابنتها تنهار كل عيد<span dir="LTR">...</span></p> <p>فما التصرف الصحيح من الناحية التربوية والنفسية؟</p> <p>هل أوافق على ذهابها معهما رغم خوفها وانهيارها، أم أُصرّ على إعفائها من هذا الموقف؟</p> <p>وهل حالتها هذه تُعدّ أمرًا طبيعيًّا يزول مع الوقت، أم أنها تعاني من شيء نفسي يحتاج إلى تدخل مختص؟</p> <p>أرجو إفادتي بالتفصيل، وجزاكم الله خيرًا<span dir="LTR">.</span></p>

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته،

 

أهلاً بكِ يا أم القلب الحنون،

 

لقد لمستُ في كلماتكِ عُمق مشاعركِ الأمومية، وحرصكِ الصادق على صحة ابنتكِ النفسية، وهذه وحدها نعمة عظيمة تستوجب الشكر، فكم من أبناء يعانون بصمت لأنهم لا يجدون مَن يفهمهم ويحتويهم. فجزاكِ الله خيرًا وبارك فيكِ وفي ابنتكِ الغالية.

 

اسمحي لي أن أبدأ من حيث انتهيتِ:

 

نعم، ما تعانيه ابنتكِ – من اضطراب شديد عند مشاهدة الذبح – ليس ترفًا نفسيًّا، ولا ضعفًا في الشخصية، وإنما هو مؤشر واضح على فرط الحساسية النفسية أو الـ (Hypersensitivity)، وهي سمة معروفة في بعض الأطفال والمراهقين الذين يمتلكون مشاعر إنسانية رقيقة وعالية التأثر، تجعلهم أكثر عرضة للاستثارة النفسية من المشاهد الدموية أو المؤلمة، لا سيما تلك المرتبطة بالألم الجسدي للكائنات الحية.

 

ومن وجهة نظر علم النفس التربوي، فإن تعريض الطفل أو المراهق لمواقف تفوق طاقته النفسية –ولو بدافع التمرين على الشجاعة– قد يُحدث ما يُعرف بـ"الصدمة الانفعالية" (Emotional Trauma)، والتي تؤثر على الجهاز العصبي وتُخزن في الذاكرة طويلة الأمد بشكلٍ مؤلم، مما يُنتج عنه أعراض مثل: القيء، الإغماء، القلق الليلي، الكوابيس، والانطواء... وهذا ما تصفينه بدقة في حالة ابنتكِ، مما يُرجّح احتمال أنها تعاني من رهاب مرتبط بالدماء أو الذبح أو ما نطلق عليه (Blood-Injection-Injury Phobia)، وهي حالة مُعترف بها نفسيًّا وتحتاج إلى التفهّم، لا التجاهل أو الإكراه.

 

وهنا نأتي إلى نقطة مهمة من الناحية التربوية:

 

لا يصح أبدًا –لا شرعًا ولا نفسيًّا– إجبار الأبناء على مشاهدة مشاهد مؤلمة بدعوى أنها جزء من الدين أو الرجولة أو الشجاعة؛ فالشريعة الإسلامية جاءت رحمةً لا قسوة، بل إن النبي ﷺ –وهو قدوتنا– كان رقيق القلب، رحيمًا بالحيوانات، حتى أنه أمر بالإحسان في الذبح، فقال: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القِتْلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذِّبْحة، وليُحدّ أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته".

 

فإذا كان الإحسان للحيوان واجبًا، فكيف بمن يشاهد الذبح ولا يحتمل منظره؟! أولى بنا أن نحسن إليه ونرحمه.

 

وأذكّرك هنا بأن التربية القسرية أو ما يُعرف بـ(Forced Exposure)، وهي أن نجبر أبناءنا على ما يسبب لهم خوفًا شديدًا بغرض تقوية الشخصية، قد تُنتج عكس المراد، وتُولِّد ما يسمى بـ"التكيُّف السلبي" (Negative Conditioning)، حيث يرتبط العيد في ذهنها بالرعب بدلًا من الفرح، مما يُفقده معناه الروحي ويولّد النفور من الشعائر لا محبتها وتعظيمها.

 

ونصيحتي لكِ من واقع فهمي للحالة النفسية لابنتك حسب روايتك عنها، ومن واقع الدراسات التربوية الأسرية، ما يلي:

 

1- حماية ابنتك من التعرض لهذا المشهد القاسي هو واجبك التربوي والشرعي، وليس تنازلاً أو تدليلاً. فأنتِ تراعين حالتها النفسية كما أمرنا الله تعالى: {لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها}.

 

2- اطلبي من والدها وجدها تفهّم الأمر من زاوية علمية ودينية، واشرحي لهم أن الصبر على المشاهد المؤلمة لا يُفرض على من يتضرر بها نفسيًّا.

 

وأخبريهم أن الشجاعة ليست في رؤية الدم، بل في اتزان النفس عند المواقف، وفي فهم معاني القربى لله، والتي يمكن أن تُدرك حتى دون مشاهدة الدم. ويمكنك أن تطلبي منهما قراءة ردي هذا على استشارتك، لعلهما يقتنعان.

 

3- قومي بتحويل التجربة إلى نُسك تربوي إيجابي:

 

أشركيها في توزيع لحم الأضحية، وتحدثي معها عن قيم الرحمة، والطاعة، والعطاء، واصطحبيها في زيارة الفقراء، لتربطي قلبها بجوهر العيد، لا بمظهره الدموي.

 

4- إذا استمرت الأعراض (الإغماء، القيء، الكوابيس) فأنصح بعرضها على مختص نفسي، فقد تحتاج إلى جلسات علاج سلوكي معرفي (Cognitive Behavioral Therapy - CBT) لتفكيك مشاعر الخوف والرهاب بشكل تدريجي وآمن.

 

5- وأخيرًا، احتضني مشاعرها كما تفعلين، ولا تسمحي لأي صوت خارجي أن يشوّش على فطرتك كأمٍ تعرف قلب ابنتها أكثر من الجميع.

 

* وهمسة أخيرة لقلبك حبيبتي:

 

تذكري أن التربية بالرحمة أثبتت في كل العصور أنها أنجح من التربية بالقسوة، فكما قيل: "إنما العلم بالتعلم، والحلم بالتحلم، ومن يتحرّ الخير يُعطه، ومن يتوقّ الشر يُوقَه".

 

وفقكِ الله لما فيه صلاح ابنتكِ وراحتها النفسية، وكتب لكِ الأجر على كل مشقة تبذلينها لأجلها.