<p>السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،</p> <p>دكتورة أميمة<span dir="LTR">..</span></p> <p>أنا أم لأربعة أبناء، أعمارهم تتراوح بين 5 و14 سنة، وقد منّ الله علينا هذا العام بفرصة الحج، أنا وزوجي، لأول مرة. المشكلة أنني قلقة جدًّا من ترك أبنائي في هذه الفترة الطويلة، خاصة أن أصغرهم متعلّق بي بشدة، وأكبرهم في سنّ يحتاج إلى متابعة دراسية وتربوية مكثفة<span dir="LTR">.</span></p> <p>أفكّر أحيانًا في تأجيل الحج، لكن زوجي يرفض ويقول إنها فرصة لا تُعوّض. أنا في حيرة: كيف أوازن بين أداء ركن عظيم من أركان الإسلام، وبين دوري التربوي كأم، خاصة في ظل غياب الدعم الكافي من العائلة لرعاية الأبناء أثناء فترة السفر؟ وهل هناك أثر تربوي يمكن أن أُعدّ له أطفالي ليكون غيابي مؤثرًا إيجابيًّا في شخصياتهم بدلاً من أن يُسبب لهم قلقًا نفسيًّا؟</p>
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته أختي الطيبة،
لقد قرأت كلماتك بتمعّن، ولامستُ بين سطورها صوتَ أمّ تخشى على فلذات أكبادها كما يخشى الزارع على غرسه الطريّ من الريح والمطر. لكن دعيني أضع يدك في يد الطمأنينة، وأهمس لك ببعض ما يُعينك على الموازنة بين واجبك الديني ورسالتك التربوية.
أولًا: إن فريضة الحج ركنٌ من أركان الإسلام الخمسة، وهي دعوة إلهية لمن استطاع إليه سبيلًا، وقد قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا}.
وإن تيسير السبل لك ولزوجك اليوم، ما هو إلا اصطفاء من الله تعالى، فلا تردِّي عطاءه وأنتِ في نيتك الصادقة ألا تتركي أبناءك دون رعاية.
ثانيًا: من المهم أن تعلمي أن الانفصال المؤقت عن الأبناء -إذا تمّ إعداده تربويًّا ونفسيًّا- لا يضرّ، بل قد ينفع، ويسهم في بناء مهارات النمو النفسي المستقل لديهم، وهو ما يُعرف في علم النفس التربوي بمفهوم Fostering independence، وهو ركن جوهري في تعزيز Self-efficacy أي شعور الطفل بقدرته على التكيّف والتصرف دون اعتماد كامل على الوالدين، وخاصة الأخ أو الأخت الأكبر سنًّا (١٤عامًا)، فهي أكثر من ستُعولين عليها في أبنائك لرعاية أخوتها الأصغر سنًّا. حفظهم الله وبارك لكما فيهم جميعًا.
ثالثًا: الخوف الطبيعي من الفقد أو الغياب عند الأطفال يُسمّى Separation anxiety، وهو شائع في الأعمار المبكرة، ويمكن التعامل معه بأسلوب تدريجي عبر ما نُسمّيه Emotional preparation، أي التهيئة الوجدانية للطفل، وذلك قبل السفر ويكون من خلال:
- إشراك الطفل في الاستعداد للحج، وتعريفه بقصص سيدنا إبراهيم عليه السلام وزوجته السيدة هاجر، وبيان أنكما في "سفر عبادة".
- طمأة الطفل بأنكما ستعودان قريبًا، ويمكن استخدام تقويم مصور لعدد الأيام مع إشارة بصرية للعدّ التنازلي.
- تسجيل رسائل صوتية أو مصورة له ليسمعها خلال غيابكما.
- وضع روتين ثابت مع الجهة التي سيرعاهم فيها شخص تثقون فيه، مع جدولة للأنشطة والنوم والتغذية..
وهذا الشخص إن لم يكن متاح من الأهل، فيمكن أن تستعينوا بجليسة للأبناء بأجر، من مصدر ثقة كبير فترة غيابكما.. مع متابعتهم جميعا بالتواصل عبر الإنترنت؛ حيث إن التواصل حاليا أصبح ميسرًا من أكثر من مصدر وتطبيق ومن أى مكان بالعالم.
رابعًا: غرس الشعور الروحي عند الطفل بأن والديه ذاهبان للقاء الله في بيته الحرام يعزز بناء هوية إيمانية لدى الطفل.
وهذا أثر تربوي طويل الأمد، يزرع في وجدانهم قيمة "العبادة على حساب الراحة"، ويعلّمهم أن الطاعات أولى من التعلّق بالأشخاص، وهو غرس عظيم في زمن الماديات.
خامسًا: من الحكمة النفسية التربوية أيضًا أن تُظهري أمامهم الثقة والهدوء، فإن الأطفال يلتقطون مشاعر الأمهات بحدس لا يُخطئ، ما يُعرف في علم النفس باسم Emotional mirroring، أي أنهم يعكسون ما يشعرون به من ملامحك أكثر مما يسمعونه من كلماتك.
سادسًا: تأملي أن غيابك في طاعة الله هو في ذاته تربية عملية لأبنائك، وهي نوع من أنواع التربية بالقدوة.
فأن يروا أمهم وأباهم يضحّون من أجل الركن الخامس، هذا أقوى من ألف درس تربوي. وقد قال النبي ﷺ: "من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهل الله له به طريقًا إلى الجنة" — فكيف بمن يسلك طريق الطاعة العظمى؟
*همسة أخيرة:
أيتها الحبيبة، لستِ بصدد مفاضلة بين حجّك وأمومتك، بل أنت تكتبين في صحيفة أبنائك سطرًا جديدًا من القيم، وسيفهمون لاحقًا أنكِ حين ذهبتِ لم تتركيهم، بل وضعتهم بين يدي الله في دعائك بكل شوطٍ وسجدة، فاستودعا الله أبناءكما أنت وزوجك الفاضل، وتوكلا على الله في القصد، ثم عودي بعد حجك بإذن الله تعالى كما يعود النهر أكثر صفاءً، واملئي قلوبهم بما غمر قلبك من نور وطمأنينة. فأنتِ أمٌّ، والأم الصالحة لا تغيب، لأنها تترك قلبها مع أبنائها، وتذهب بروحها إلى ربها.
في حفظ الله ورعايته، وتقبّل الله منكما، وردّكما إلى أبنائكما ردًّا جميلًا مطمئنًا.. ولا تنسونا من صالح دعائكما من على عرفات الله.