الإستشارة - المستشار : د. عادل عبد الله هندي
- القسم : مناهج الدعوة ووسائلها
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
27 - رقم الاستشارة : 2094
14/06/2025
أنا داعية وإمام وخطيب، وقد دُعيت للجلوس مع أمٍّ فقدت ابنتها الجامعية مؤخرًا، وكانت بينها وبين ابنتها خصومة أو جفوة قبل الوفاة، فدخلت الأم في حالة حزن واكتئاب وشعور بالذنب، وتطلب أن تجلس مع داعية يكلمها، ويخفف عنها، ويزيل ما في قلبها من ألم وتأنيب. فما طبيعة الحوار الذي يمكن أن يدور بيني وبينها؟ وكيف يكون حديثي معها مزيجًا من الإيمان والرحمة والواقعية واللطف، ليكون بلسماً حقيقيًّا لجراحها؟ أرجو الجواب بما يناسب المقام علميًّا وإنسانيًّا.
أيها الداعية المبارك... يا صاحب القلب الحي واللسان الرقيق... أحيي فيك هذا الحس النبيل، وهذا الاستشعار العظيم لمسؤولية الدعوة في أحلك اللحظات وأدقها... فإن التخفيف عن المكروب، والسعي لتجديد رجاء المنكسر، وتسكين لوعة المكلوم، كل ذلك من أعظم أبواب القُرب إلى الله، ومن أشرف صور الدعوة الفردية التي يُختبر فيها صدق المصلحين، ولذا عليك بالآتي:
أولًا: فهم عميق لحالة الأم المكلومة
أخي الداعية الكريم: إن هذه الأم لا تحتاج الآن إلى خطاب عقلاني بارد، ولا إلى محاضرة فقهية عن القضاء والقدر فحسب، بل تحتاج إلى:
* قلبٍ يسمعها قبل أن ينصحها.
* صدرٍ يضمّها قبل أن يوجهها.
* دعوةٍ تنقذها من الغرق، لا تغرقها في الشعور بالذنب أكثر.
واعلم أن هذا الحوار ليس كسائر الحوارات، بل هو عبادة دعوية رحيمة، فاستحضر نية التفريج عن مسلم مكلوم، ففي الحديث: "من نفّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا، نفّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة".
ثانيًا: طبيعة الحوار المقترح مع هذه الأم: حوار يُجدد الطمأنينة
ويتمثل ذلك في تلك الخطوات:
1) البداية: ترحيب وتعاطف صادق، ابدأ بكلمات عاطفية دافئة تشعرها بأنك لست واعظًا بل شقيق وجدان: "يا أمي، والله إني أتيت اليوم لأكون ابنًا لكِ، لا مجرد إمام... أتيت لأن الله يعلم ما في قلبك، ويريد لكِ من هذا الجلوس بردًا وسلامًا ورحمة".
2) تذكير بالقدر واللطف الخفي، قال تعالى: ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ [الحديد: 22] "قدّر الله لها ساعة الرحيل، وكان في علم الله أنها ستذهب عن الدنيا في تلك اللحظة، وليس بينكما خصام في صحيفة القضاء، بل عسى أن يكون ما بينكما سببًا في كمال أجرك، إذا صدقتِ في التوبة والرجوع".
3) التهوين من الذنب مع فتح باب الأمل، كأن تقول: يا أمي… ما منا من أحد إلا وقصّر مع أحبابه يومًا، لكن الله لا ينظر إلى ما فات بقدر ما ينظر إلى الصدق في الندم وما بعده، ألم تسمعي قول الحبيب ﷺ: (التائب من الذنب كمن لا ذنب له)؟ فإذا تاب العبد، سُطرت له صفحاتٌ من القبول.
4) تعظيم الصبر والاحتساب، قال تعالى: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: 155 - 157] قل لها: "هذه الكلمة يا أمي، إذا خرجت من قلبٍ صادق، كتب الله لكِ بها ثلاث بشريات: الصلاة، الرحمة، الهداية".
5) أمل في لقاءٍ آخر لا يشوبه خصام، قل لها: لعلكِ تشتاقين إليها اليوم، وتندمين على لحظات الخصام، لكن أبشري... إن صدقتِ في التوبة، وثبتِّ على طاعة الله، فلكِ موعدٌ معها في الجنة، حيث لا خصام ولا وجع، كما قال ﷺ: "إذا مات ولدُ العبد، قال الله لملائكته: قبضتم ولد عبدي؟ قالوا: نعم، قال: قبضتم ثمرة فؤاده؟ قالوا: نعم، قال: ماذا قال عبدي؟ قالوا: حمدك واسترجع، فيقول الله: ابنوا لعبدي بيتًا في الجنة، وسمّوه بيت الحمد"، فكيف إذا كان الميت "بنتًا"؟! هي ثمرة فؤاده، ونبع حنانه!
ثالثًا: وصايا ختامية للأم المكلومة من الإمام الجالس معها
1) أكثري من الاستغفار لها ولكِ، فإن العبد لا يدري أي دعوة تُستجاب، ورضا الله يُطفئ كل الحسرات.
2) قدّمي صدقة جارية عنها: مشروع ماء، مصحفًا، أو وقْفًا باسمها.
3) اعملي من الآن ما تحبين أن تتذكرك به لو سبقكِ أحد إلى الله.
4) تواصلي مع الصالحات، واطلبي منهن الدعاء والتسلية.
5) اجعلي ما حدث محطةَ عودة إلى الله، لا سجنًا للندم المؤلم.
وفي الختام…
أخي الداعية – أخي الإمام: اجعل كل كلمة تنطق بها كأنها قطرةُ ماء على قلبٍ محترق، واذكر أن الرحمة قبل النصيحة، وأن العاطفة الحانية تفتح مغاليق القلب أكثر من كل خطابٍ مزخرف... ولعلها بعد جلوسك تقول في سرها: كان هذا الإمام رحمةً من الله لي، بعد أن أغلقت الدنيا في وجهي أبوابها.
وفقك الله، وأجراك على الدمع قبل الدم، وعلى الكلمة الطيبة قبل الخُطبة الرنانة.