الإستشارة - المستشار : أ. فتحي عبد الستار
- القسم : العلاقة بالقرآن
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
45 - رقم الاستشارة : 2144
20/07/2025
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
أرجو توضيح معنى قول الله تعالى في سورة النحل، الآية 74: (فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ إنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ).
كيف يمكنني تطبيق هذا النهي؟ وما الفرق بين ضرب الأمثال المنهي عنه، وبين التشبيهات الجائزة التي قد تستخدم لتقريب المعاني المتعلقة بذات الله وصفاته وأفعاله؟
جزاكم الله خيرًا.
مرحبًا بك أيها السائل الكريم، وبكل من يقرأ هذه الكلمات، نسأل الله أن يفتح علينا وعليكم من بركات علمه وفضله. نشكرك جزيل الشكر على مراسلتنا، ونسأل الله أن يبارك فيك، وأن يزيدك علمًا وفهمًا وتقوى، وأن يجعلنا وإياك من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وبعد...
فإنه لشرف عظيم أن نتأمل معًا آيات كتاب الله العزيز، ونغوص في بحار معانيها؛ ففي كل آية نور وهدى، وفي كل كلمة حكمة وعبرة. وإن سؤالك هذا يلامس جانبًا عظيمًا من جوانب الإيمان، وهو تعظيم الله -سبحانه وتعالى- وتنزيهه عن كل نقص أو مشابهة لخلقه.
إن الحديث عن ذات الله وصفاته وأفعاله هو من أسمى وأجلّ العلوم، وهو باب عظيم يفتح القلوب على محبة الله وتعظيمه.
والآية الكريمة التي تفضلت بذكرها من سورة النحل، وهي قوله تعالى: ﴿فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ إنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾، هي أمر إلهي بالتأدب مع الله -سبحانه وتعالى- في كل ما يتعلق بذاته العلية وصفاته الكاملة.
هذه الآية تنهانا عن أن نجعل لله أمثالًا أو أندادًا أو نظائر من خلقه. فالله -سبحانه وتعالى- هو الأحد الصمد، ليس كمثله شيء، وهو المتفرد بصفات الكمال والجلال. عندما يقول الله تعالى: ﴿فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ﴾، فالمقصود هو عدم تشبيهه بخلقه، أو قياسه عليهم، أو وصفه بما لا يليق به من صفات النقص التي يتصف بها البشر أو المخلوقات.
إن عقولنا البشرية محدودة، وإدراكنا قاصر، ولا يمكننا أن نحيط بذات الله وصفاته إلا بما عرَّفنا به –سبحانه- في كتابه الكريم وسنة نبيه ﷺ. ولذلك، جاءت تكملة الآية لتؤكد هذا الفارق العظيم: ﴿إنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾، فهو سبحانه يعلم ذاته وصفاته على حقيقتها، ويعلم كماله وجلاله، أما نحن فجهلنا عظيم، وعلمنا قليل، ولا ندرك إلا ما ظهر لنا من آياته وعظيم خلقه. فكيف لنا أن نقيس الخالق العظيم على المخلوق الضعيف؟ وكيف لنا أن نضرب له الأمثال من عالمنا المحدود؟
وهذا النهي هو صيانة لعقيدة التوحيد، وحماية لقلوبنا من الوقوع في شرك التشبيه أو التجسيم أو التمثيل. فالله –تعالى- يقول في آية أخرى جامعة مانعة: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ [الشورى: 11]. وهذه الآية تؤكد نفي المماثلة عن الله في ذاته وصفاته وأفعاله، وفي الوقت نفسه تثبت له صفات الكمال التي وصف بها نفسه، دون تكييف أو تمثيل.
كيفية تطبيق هذا النهي
تطبيق هذا النهي يتجلى في عدة جوانب من حياتنا:
1- التنزيه المطلق لله تعالى:
يجب أن نؤمن بأن الله -سبحانه وتعالى- منزه عن كل نقص، وعن مشابهة المخلوقين. لا ننسب إليه صفات البشر من ضعف أو عجز أو احتياج. هو الغني الحميد، القوي العزيز، الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.
2- عدم الخوض في كيفية الصفات:
عندما نقرأ أو نسمع عن صفات الله تعالى، نؤمن بها كما وردت، ونثبتها لله على الوجه الذي يليق بجلاله وعظمته، دون أن نخوض في كيفيتها أو نتخيلها على هيئة تشبه صفات المخلوقين.
وعندما سُئل الإمام مالك -رحمه الله- عن الاستواء قال: «الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة».
3- الحذر من التشبيه والتمثيل:
يجب أن نحذر كل الحذر من أي قول أو اعتقاد يؤدي إلى تشبيه الله بخلقه. فالله –تعالى- لا يشبه أحدًا من خلقه، ولا يشبهه أحد منهم. هو الخالق، وهم المخلوقون. هو الرب، وهم العبيد.
4- التسليم المطلق لله ورسوله:
نُسلم بكل ما جاء في القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة عن الله –تعالى- وصفاته، ونؤمن به إيمانًا جازمًا، دون زيادة أو نقصان، ودون تأويل يخرج الصفات عن ظاهرها اللائق بالله، أو تعطيل لها.
5- التواضع العلمي والمعرفي:
أن ندرك قصور عقولنا عن إدراك كنه ذات الله وصفاته، وأن نتواضع أمام عظمة الله وجلاله. فكلما ازداد الإنسان علمًا بالله، ازداد خشية له وتواضعًا.
الفرق بين الأمثال المنهي عنها والتشبيهات الجائزة
هذا سؤال في غاية الأهمية، ويحتاج إلى تفصيل دقيق حتى لا يختلط الأمر على المسلم:
1- الأمثال المنهي عنها:
هي تلك الأمثال التي يقصد بها تشبيه الله –تعالى- بخلقه، أو قياس الخالق على المخلوق، أو إعطاء الله صفات بشرية أو مادية تحد من كماله المطلق. هذا النوع من الأمثال يؤدي إلى الوقوع في الشرك أو الكفر؛ لأنه ينقص من قدر الله وعظمته، ويجعله في مرتبة المخلوقين.
مثال على ذلك، أن يقول قائل: "إن الله يجلس على العرش كما يجلس الملك على كرسيه"، فهذا تشبيه لله بالمخلوق في كيفية الجلوس، وهو تمثيل مذموم.
2- التشبيهات الجائزة:
هي التي ليست من باب تشبيه الله بخلقه؛ بل هي من باب تقريب المعاني المجردة أو الغيبية إلى أذهان البشر، الذين لا يدركون إلا بالمحسوسات. الله -سبحانه وتعالى- هو الذي يضرب هذه الأمثال في القرآن الكريم، وهي أمثال عليا لا يقصد بها التمثيل أو التشبيه المذموم، بل هي لزيادة الإيضاح وإقامة الحجة.
والفرق الجوهري هنا هو أمران:
- المصدر: الأمثال المنهي عنها هي من اجتهاد البشر القاصر، أما الأمثال الجائزة فهي من الله تعالى نفسه.
- القصد: الأمثال المنهي عنها قصدها التشبيه أو التمثيل، أما الأمثال الجائزة فقصدها تقريب المعنى وإيضاح الحقيقة، مع بقاء التنزيه المطلق لله.
ومن أمثلة الأمثال الجائزة في القرآن الكريم:
- مثال النور: قال تعالى: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [النور: 35]. وهذا المثل ضربه الله لتقريب معنى هدايته ونوره للقلوب، وليس لتشبيه ذات الله تعالى.
- مثال العنكبوت: قال تعالى: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ [العنكبوت: 41]. هذا المثل يضرب لبيان ضعف من يعتمد على غير الله، وليس فيه أي تشبيه لله تعالى.
- مثال الذباب: قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ﴾ [الحج: 73]. هذا المثل يضرب لبيان ضعف الآلهة المزعومة، وليس فيه أي تشبيه لله تعالى.
فالخلاصة أن الأمثال المنهي عنها هي تلك التي تنشأ من محاولة البشر تشبيه الخالق بالمخلوق، أو تحديد ذاته وصفاته بما لا يليق به. أما الأمثال الجائزة، فهي التي يضربها الله –تعالى- في كتابه لتقريب المعاني العميقة إلى أذهاننا، وهي دائمًا تزيدنا إيمانًا وعظمة وتنزيهًا لله، ولا تحمل في طياتها أي معنى للتشبيه المذموم.
نسأل الله أن يرزقنا الفهم الصحيح لدينه، وأن يثبتنا على عقيدة التوحيد الخالص، وأن يجعلنا من الذين يعظمون الله حق تعظيمه، وينزهونه عن كل ما لا يليق بجلاله.