الإستشارة - المستشار : أ. فتحي عبد الستار
- القسم : إيمانية
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
302 - رقم الاستشارة : 1894
11/05/2025
أنا سيدة رزقني الله فرصة الحج هذا العام، وبدأت في دراسة المناسك وتعلمها، ووجدت أننا في الطواف نجعل الكعبة عن يسارنا، ونطوف بعكس اتجاه عقارب الساعة، فما الحكمة في ذلك؟ فقد اعتدنا أن اليمين في الشريعة مفضَّل في كثير من المواضع، كارتداء الملابس والأحذية والتيامن في الطهارة، وغيرها، فلماذا هنا خُصَّ اليسار؟ وهل لهذا الاتجاه في الطواف بُعد رمزي أو روحاني؟
أطرح سؤالي هذا لا من باب الشك أو الاعتراض -معاذ الله- ولكن من باب أنني كلما فهمت الحكمة من الشعيرة، كلما ازددت خشوعًا فيها وحضورًا.
مرحبًا بكِ أيتها الطيّبة المباركة، وأشكرك على تواصلكِ معنا، وأسأل الله أن يُتمّ لكِ حجّكِ على خير، وأن يرزقكِ حجًّا مبرورًا، وسعيًا مشكورًا، وذنبًا مغفورًا، وعملًا متقبّلًا، وأن يشرح صدركِ لكل ما يُرضيه عنكِ، وبعد...
فلقد أحسنتِ جدًّا -أختي الكريمة- حين قلتِ: «كلما فهمتُ الحكمة من الشعيرة، ازددتُ خشوعًا فيها وحضورًا»، وهذا من دلائل علوِّ الهمَّة وصدق النيَّة، فالفهم نور، والخشوع ثمرته. ولذلك قال الله -تعالى- في وصف المتدبّرين لآياته: ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُو۟لُوا ٱلْأَلْبَٰبِ﴾ [ص: 29]، فالتدبر سبيل إلى الذكرى، والذكرى طريق إلى الخشوع والحضور. فدعينا الآن نُبحر معًا في نور الشعيرة، ونتأمل الحكمة من هذا الاتجاه الذي أمر الله به في الطواف.
لماذا الطواف عكس اتجاه عقارب الساعة؟
طواف الحاجِّ بالكعبة هو طواف قلب قبل أن يكون طواف جسد، والسرُّ فيه أكبر من أن يُحيط به عقل؛ لكنه مع ذلك ليس عبثًا ولا عشوائيًّا، بل هو توقيفٌ من الله، وحكمةٌ خفيَّة، ومشهدٌ فيه رمزيةٌ وامتدادٌ كونيٌّ عجيب.
إن الأصل في العبادات كلها أنها توقيفية، أي تعتمد وتتوقف على النصوص الشرعية من الكتاب والسنة، في مكانها وزمانها وعددها وهيئتها، والطواف من تلك العبادات، فنحن لا نؤدِّيه لأنَّ عقولنا استوعبت حكمته في ذاته وفي هيئته وعدد أشواطه واتجاهه؛ بل لأنَّ الله أمر به هكذا، وعلَّمه لنبينا ﷺ، فنحن نتَّبعه تعبُّدًا وخضوعًا. وقد بيَّن النبي ﷺ هذا المعنى حين قال في الحجِّ: «خذوا عني مناسككم» [رواه مسلم]، فنحن نطوف على الهيئة التي علمنا إياها النبي ﷺ وأمرنا بها، دون اعتراض، فنزداد بذلك قربًا وتواضعًا، فالعبودية الحقَّة هي في طاعة ما لم يُكشف لنا وجه حكمته، وقبل معرفة عِلَّته.
وهذا الباب من أعظم أبواب الامتحان القلبيُّ في الحج، فكل شعيرة فيه تقول: "انزل من عقلك إلى قلبك، ومن فكرك إلى تسليمك".
هل في الطواف بهذا الاتجاه حكمة خفيَّة؟
نعم، لقد تأمَّل العلماء والمتفكِّرون في هذا الاتجاه، فوجدوا له إشارات في عالم الخَلق والكون والروح، وكلّها تزيد العبد خُشوعًا وفهمًا، دون أن تكون بديلًا عن التسليم.
1- امتدادًا ومحاكاة لحركة الكون:
هل تعلمين أن الكواكب تدور حول مراكزها بهذا الاتجاه؟ فالأرض تدور حول الشمس عكس عقارب الساعة، والإلكترونات تدور حول نواة الذرَّة عكس عقارب الساعة، والقمر يدور حول الأرض كذلك، والمجرَّات حول مراكزها كذلك.
فكأنّكِ حين تطوفين تدخلين في سُنة كونية عظمى، وتنسجمين مع حركة الخلق كلِّه في طوافه حول مركزه، وكأنَّ الكعبة هي قلب الأرض، فتطوفين حولها كالإلكترون الذي يدور حول نواته لا يهدأ في محيط النور.
فأنتِ لستِ وحدكِ في الطواف! إنكِ تطوفين مع الأرض والقمر والشمس والمجرَّات والذرات، في توقيتٍ سماويٍّ، يعكس أنّ الله واحد، وأن الخلق كلَّه خلقه، وهذا الخَلق في تسبيح دائم: ﴿وَإِن مِّن شَىْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَـٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾ [الإسراء: 44].
2- لأن القلب على ذلك الاتجاه
حين تجعلين الكعبة عن يساركِ، يكون قلبكِ أقرب منها؛ فالقلب يميل إلى الجهة اليسرى من جسد الإنسان، فحين تطوفين والكعبة عن يسارك، فإن قلبك يكون أقرب ما يكون لها.
ثم إن هذا ليس مجرد اتِّجاه؛ بل تربية رُوحيَّة: فالقلب ينبغي أن يكون أقرب ما يكون إلى الله، لا العقل ولا البدن. فالطواف بهذا الشكل يرمز إلى طواف القلب حول مركز التوحيد. وهذا هو الحجُّ في جوهره: التخلِّي عمَّا سوى الله، والتحلِّي بطاعته.
التيامن في الشريعة لا ينقض التياسر في الطواف
إن التيامن محبوب في كثير من الأمور بالفعل، وقد قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: «كان رسولُ اللهِ ﷺ يُحب التيامُنَ ما استطاعَ في شأنِه كلِّه، في طُهورِه وتَنعُّلِه وترجُّلِه» [رواه البخاري]. ولكن الأمور التي فيها عبادة مخصوصة بتوجيه إلهي، فالأصل فيها الاتِّباع، فالنبي ﷺ كان يبدأ باليمين في طهوره ولباسه؛ لكنه كان يطوف عن يساره، وكان يدخل الخلاء بيسراه، ويقدِّم رجله اليسرى عند الخروج إلى الدنيا من المسجد، فلكل حالٍ ما يناسبه. فالتياسر في الطواف ليس استثناءً من التيامن، بل هو تنويعٌ في العبادة، وكل ذلك توقيفيٌّ عن الله، وفيه تربية على التسليم. فالطواف لم يُشرَع فيه اختيار، بل جاء بنصٍّ ثابت، ولذلك يُقدَّم «الامتثال» على «التيامن»، فالأصل في كل عبادة أن نقول: سمعنا وأطعنا، لا: لِمَ يا رب؟
وختامًا -أختي الفاضلة- يحمل الطواف كثيرًا من الرموز، منها: تصفية القلب من كلِّ شيءٍ إلا الله، والامتثال لأمره، وطاعته، وقد قال ﷺ: «الطوافُ بالبيتِ صلاةٌ، إلّا أنَّ اللهَ أباحَ فيه الكلامَ، فمن تكلَّمَ فيه، فلا يتكلَّمنَّ إلَّا بخيرٍ» [رواه الترمذي]. فهو صلاةٌ، ولكن على هيئة سَيرٍ، وهو ذكرٌ، ولكنه بالمشي والدوران، وهو خشوع وبكاء، ولكن من فرح المحبِّ لا من حزن الغريب.
يسُرُّنا دومًا استقبال أسئلتكِ، وتأمُّلاتكِ، وبحثكِ النقيِّ عن المعاني. بارك الله لكِ حجَّكِ، ونوَّر قلبكِ، وكتب لكِ أن تعودي من حجِّكِ كيوم ولدتكِ أمُّك. ولا تنسينا من صالح دعائكِ عند البيت العتيق.