Consultation Image

الإستشارة
  • المستشار : أ. مصطفى عاشور
  • القسم : فكرية
  • التقييم :
  • عدد المشاهدات : eye 53
  • رقم الاستشارة : 1994
19/05/2025

ماذا نقصد بالتسامح، حيث بات هذا المفهوم مستهلكًا هذه الأيام، ويتم استدعاؤه كثيرًا خاصة عند الحديث عن رغبة في احترام الهوية أو الدفاع عنها؟

الإجابة 19/05/2025

منذ عقود ونحن نعاني من المصطلحات الغامضة التي تُلقى علينا، ويُراد منا التسليم لها دون معرفة حقيقتها، ومنها التسامح، الذي يبدو مفهومًا براقًا تتحقق على أرضيته التعايش والوئام بين الناس، لكن التوظيف السياسي للتسامح قد يشوه تلك الكلمة النبيلة.

 

يمكن التأريخ لبدايات ظهور كلمة التسامح، مع عصر النهضة الأوروبية في القرن السادس عشر الميلادي، وكان أول من استخدمها المصلح البروتستانتي" مارتن لوثر" عام 1541م، وجاء الاستخدام في موجة التعصب الديني ونشوب الحروب الدينية الأوروبية، خاصة الحرب الدينية في فرنسا من 1562م حتى 1598م والتي استمرت (36) عامًا بين الكاثوليك والبروتستانت، وانتهت باعتناق ملك فرنسا "هنري الرابع" للكاثوليكية حرصًا على السلام في بلاده.

 

ومع ظهور الحركة الإنسانية في أوروبا من مفكرين وأدباء سعوا إلى ربط النهضة الأوروبية بالتراث اليوناني القديم، تفاديًا للتعصب والعنف، حيث دعا هؤلاء إلى التسامح وأكدوا على حرية اختيار الفرد، ودعوا إلى المصالحة بين الكاثوليك والبروتستانت، وتوجت تلك الجهود بظهور مرسوم "نانت" أبريل 1598م لإنهاء الحروب الدينية في فرنسا، وقد منح هذا المرسوم البروتستانت حقوقًا دينية ومدنية وسياسية في أجزاء معينة من فرنسا، وكان مرسومًا متسامحًا من أجل التعايش.

 

ثم تتابعت الأفكار عن التسامح في أوروبا، مثل أفكار "اسبينوزا" و"جان لوك" (ت1704م) الذي وضع بعضًا من أسس التسامح فدعا إلى فصل المعتقد الديني عن تسيير نظام الحكم، ثم توالت أفكار الفلاسفة، مثل "كانط" الذي دعا إلى ما أسماه دين العقل، مدعيًا أنه لا يوجد دين إلا دين العقل، و"فولتير" الذي كتب رسالة عن التسامح 1763م.. ومن هنا يمكن القول إن التسامح هو نتاج ووليد حركة الإصلاح الديني في أوروبا.

 

تعتبر الثقافة من أهم مسارات ترسيخ التسامح في المجتمعات، فلا بد أن تحوي تلك الثقافة قيم التعايش والحرية وقبول الاختلاف والتنوع، وترفض التعصب والإكراه، وتؤمن بفكرة الحقوق العامة للإنسان؛ فوجود مثل تلك القيم يخلق بيئة مناسبة لازدهار التسامح، إذ لا تسامح بدون بيئة ثقافية حاضنة للقيم التي يقوم عليها التسامح.

 

وفي الفكر الإسلامي تجسد التسامح في مقولة "رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب"، وفي التجربة التاريخية الإسلامية تجسد التسامح في كثير من فتراتها؛ ففي الأندلس تجسد في حضور أصحاب الديانات الثلاث في الوزارة في عهد الخليفة الأموي "عبد الرحمن الثالث"، وكان بعض الرهبان الغربيين يدرسون في قرطبة وإشبيلية على أيدي العلماء المسلمين.

 

وقد أنتجت الرؤية الإسلامية في مجال التسامح، حق التعارف؛ فالتعارف هو بوابة التسامح، ولا يتحقق التعارف إلا باللقاء والحوار والتفاهم، كما أقرت نصوص الإسلام حق التعددية واعترفت بالآخر وأقرت له من التشريعات ما يضمن حقوقه وأمنه وسلامته، والدليل على ذلك أن وثيقة المدينة التي وضعها النبي ﷺ بعد هجرته إلى المدينة لتنظم العلاقة بين طوائف هذا المجتمع الجديد، ضمت (27) مادة تضمن حقوق غير المسلمين في المجتمع الجديد من حوالي (47) مادة هي مجمل نصوص الوثيقة.

 

لكن إحدى المشكلات الكبرى التي تواجه التسامح، هو تعرضه للتوظيف السياسي، الذي يُخرج تلك القيمة عن مقاصدها النبيلة، وربما تم استخدام التسامح للتغطية على جرائم الاستبداد والاستعمار، والزعم بأن التسامح يفرض أن تدع المقاومة خياراتها في رفض الاحتلال ومقاومته، وفي تلك الحالة يصبح التسامح جريمة لا فضيلة؛ لأن التسامح مع الشر لا يعني إلا توافقًا مع الشر وتدعيمًا له.

 

ونلاحظ أن التسامح لا يعني أن يتنازل الشخص عن ثوابته وهويته ويتكتم عليهما ولا يظهرهما تحت زعم أن إظهار الهوية يناهض التسامح، وهذا أيضًا خطأ كبير، فهو لا يعني إلا شيئًا واحدًا ألا وهو تذويب الهوية وقهرها وحجبها، وهذا ليس تسامحًا، ولهذا كان المفكر الدكتور عبد الوهاب المسيري يؤكد أن التسامح ليس تنازلاً عن الهوية والثقافة؛ لأن عمق التسامح ليس التنازل ولكنه فهم الآخر فهمًا عميقًا ووضع قواعد للتعايش والاحترام المتبادل.

 

ونبه المسيري إلى أن دعوات التسامح الموجهة للعرب تكون غالبًا مصحوبة بمطلب التنازل عن الهوية الثقافة، ومن ثم فالتسامح لا يعني في تلك الحالة إلا الخضوع.

الرابط المختصر :