الإستشارة - المستشار : أ. مصطفى عاشور
- القسم : مفاهيم
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
36 - رقم الاستشارة : 2965
14/10/2025
يتحدث البعض عن أن التربية يجب أن تخلو من العقاب لكن ما نشاهده أن هذه الطريقة لم ترد دورها تربويًّا والسؤال، هل يمكن أن نعرف مفهوم العقاب في الرؤية التربوية الاسلامية؟
أخي الكريم، ظهرت اتجاهات تدعو لتنحية العقاب تمامًا من التربية، والاعتماد على المكافأة كبديل عن العقاب، والحقيقة أن الاقتصار على جانب واحد في التربية لا يؤتي الثمار المطلوبة تربويًّا، فلا بد من العقاب والثواب أو المكافأة في عملية التربية، والمقصود بالعقاب ليس الانتقام أو الإيذاء وتحطيم الشخص إذا وقع منه خطأ، ولكن -في الرؤية التربوية الإسلامية- أشبه بالمنبه، كما أن العقاب لا بد أن يتناسب مع الخطأ، وأن ينتهي مع توقف الخطأ أو اتجاه المخطئ إلى المسار الصحيح.
العقاب وسيلة لا غاية
للتربية الإسلامية تراثها الثري في هذا المجال، حيث نظرت للعقاب كوسيلة تربوية، ولكن بضوابط صارمة لا تؤدي إلى فساد أو أذى، ولعل وجود ذلك العقاب في التربية، يستند إلى ما جاء في الحديث النبوي عن عقاب الأطفال لعدم الصلاة إذا بلغوا عشر سنين، إذ يقول النبي ﷺ: "مُروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبعِ سنين واضربوهم عليها وهم أبناء عشر وفرِّقوا بينهم في المضاجعِ" (رواه أبو داوود).
يقول العلماء إنه حدد سن العقاب بعشر سنوات نظرًا لقدرة الصبي على التحمل، كما أنه عقاب وليس انتقامًا أو تشفيًا، كما أنه عقاب بدني يسبقه عقابات تحذيرية، مثل: عبوس الوجه، والزجر والإعراض والمقاطعة في الكلام، ثم يأتي العقاب البدني كمرحلة أخيرة وليس كبداية.
وقد أكد علماء التربية في التراث الإسلامي أن مفهوم العقاب موجود في التربية، وأعطوه الكثير من الاهتمام تقييدًا للمربي عن التعسف في استخدامه، أو الإفراط في استخدامه نظرًا لآثاره السيئة تربويًّا، لكنهم اعترفوا بوجوده ودوره الإصلاحي التربوي، فهو مثل الدواء الذي يضطر الشخص للجوء إليه لضرورة، ويكون بمقدار محدد لا إفراط فيه، وينتهي مع حالة الشفاء، ويغلف ذلك كله غياب حظ النفس من المربي سواء بالانتقام أو التشفي تجاه من يعاقبه.
ونتوقف هنا مع نص لـ"ابن مسكويه" في كتابه "تهذيب الأخلاق"، حيث أكد أن الطفل يكون في بداية نشأته -في كثير من الأحيان- مخالطًا للأفعال السيئة من كذب وفضول زائد... إلخ ثم يلاحقه التأديب والتجارب حتى يهذبه، ولذا قال ابن مسكويه: "فلذلك ينبغي أن يؤاخذ ما دام طفلاً".
العقاب المبكر -له ضوابطه الصارمة- في سن الطفولة المبكرة، يكون في الغالب زاجرًا للطفل عن استمرار الخطأ وينجيه من العقاب في حال تقدم العمر في مرحة الشباب وما بعدها.
تلك النظرة المبكرة للعقاب تقلل من ارتكاب الخطأ وتنجي هؤلاء الصغار من العقابات في المستقبل، يقول "ابن مسكويه" عن التربية المبكرة: إنها "تعودهم محبة الفضائل وينشؤون عليها، فلا تثقل عليهم تجنب الرذائل، ويسهل عليهم بعد ذلك جميع ما ترسمه الحكمة وتحده الشريعة والسنة؛ ويعتادون ضبط النفس عما تدعوهم إليه من اللذات القبيحة، وتكفهم عن الانهماك في شيء منها والفكر الكثير فيها، وتسوقهم إلى مرتبة الفلسفة العالية وترقيهم إلى معالي الأمور".
رفض التعسف في العقاب
ابن خلدون تحدث عن العقاب ولكن أعطاه معنى الشدة والقهر، محذرًا من العسف في تأديب الأطفال، فكان يدرك الأبعاد السلبية النفسية والخلقية في التعسف في العقاب، وقال في مقدمته: "الشدة على المتعلمين مضرة وذلك أنَّ إِرهافَ الحدِّ بالتعليم مُضِرٌّ بالمتعلّمِ سيما في أصاغرِ الولد لأنه منْ سوءِ الملَكَة، من كان مرباه بالعسف والقهر من المتعلمين أو المماليك أو الخدم سطا به القهر وضيق عن النفس في انبساطها وذهب بنشاطها ودعاه إلى الكسل وحمل على الكذب والخبث وهو التظاهر بغير ما في ضميره خوفًا من انبساط الأيدي بالقهر عليه وعلمه المكر والخديعة"، فالتعسف العقابي من الأشياء المضرة تربويًّا؛ لأنه ينشئ منظومة أخلاقية سيئة كالمكر والذلة والخديعة والكذب.
ومن ثم فالعقاب ليس مقصودًا في حد ذاته ولكن وسيلة لتقويم السلوك المعوج أو المنحرف أو السلبي، وهذا ما يعطي العقاب مكانته في تحقيق التوازن في التربية، التي تراعي تحقيق المصلحة في التنشئة الحسنة والتربية على الأخلاق والفضائل دون القهر والإذلال أو الانتقام، وألا يكون العقاب حاضرًا دومًا في التربية لأنه يقود إلى التفلت الأخلاقي والسلوكي حال غيابه.
التربية القويمة تقوي الضمير، فهي ليست خوفًا من العقاب، وربما هذا ما أشار إليه "شمس الدين الأنبابي"، وهو من شيوخ الجامع الأزهر في القرن التاسع عشر الميلادي، في كتاب "رسالة في رياضة الصبيان وتعليمهم وتأديبهم" فقال: "الضرب وسيلة مفيدةٌ؛ لإدراك غاية حميدةٍ، فإذا أدرك المعلم أن مقصود الضرب حصولُ العلم والأدب: توقَّى الضرب المبرِّح الذي يُلحق بالصبي الإتلاف والعطب".
روابط ذات صلة:
مفهوم السعادة في الرؤية الأخلاقية الإسلامية
الحياة الطيبة.. مفهوم للإصلاح الاجتماعي