ضائعة بين إدمانين.. كيف الخلاص؟

<p>أنا فتاة جامعية أبلغ من العمر عشرون عامًا، أدرس في قسم حاسب آلي أعيش ولله الحمد في حالة جيدة من الناحية الاجتماعية والمادية.</p> <p>مشكلتي أنني تعلقت بالإنترنت بدرجة كبيرة، فلا يمر يوم إلا وأدخل الصفحات. ومنها صفحة أشارك فيه وأساعد الناس في مشاكلهم، لكني لم أجد حلا لمشكلتي. فقد أدمنت دخول الإنترنت، وأثر هذا على تحصيلي الدراسي وجلوسي مع عائلتي.</p> <p>وقبل شهرين تعرفت على شاب وبدأت المحادثات بالماسنجر فقط وتطور الموضوع إلى الجوال والمكالمات، فأصبحت لا أطيق مرور يوم دون سماع صوته وهو كذلك.</p> <p>باختصار شديد، تعلقنا ببعض، وأنا الآن لا أستطيع تركه والتفرغ لدراستي وكذلك الصفحة، فقد تعلقت بهما أشد التعلق وحاولت جاهده إنهاء هذه العلاقة ولكن محاولاتي باءت بالفشل.</p> <p>مع علمي اليقين بأن ما أفعله خطأ، وأريد أن أتخذ سياسة جديدة مع نفسي.</p> <p><span dir="RTL">أرجو أن تفيدوني بالحلول</span>.</p>

ابنتي الكريمة فجر، مرحبًا بك، ونسأله -سبحانه- أن يطيل في الحق عمرك، ويحسن عملك، ويبارك في شبابك، ويكثر من أمثالك ممن نذروا أنفسهم لمساعدة الناس، فخير الناس أنفعهم للناس.

 

وأشكرك ابنتي الكريمة على هذه الثقة التي أوليتنا إياها، ونسأل الله عز وجل أن نكون عند حسن ظنك، وأن يوفقنا في مساعدتك، وأن نكون سببًا في شفاء صدرك إن شاء الله تعالى، وبعد..

 

فلا شك أن شبكة الإنترنت وسيلة اتصال مهمة، احتلت في السنوات الأخيرة مكانة متميزة في عالم التواصل بين البشر على جميع المستويات والثقافات، وهيأت الكثير من فرص التلاقي والحوار والنقاش، وشكلت متنفسًا رحبًا لكل صاحب رأي أو توجه ما، لعرض رأيه وتوجهه حيال القضايا المختلفة، واستقبال ردود الأفعال حول تلك الآراء والتوجهات، ومناقشتها مع أصحابها.

 

إلا أن الإنترنت (رغم كل هذه المزايا والإيجابيات التي لا تُنكر) تنطوي أيضًا على كثير من السلبيات والعيوب التي تحتاج إلى أمصال خاصة ولقاحات معينة، تُكسب من يتعامل معها مناعة ضد هذه السلبيات والعيوب.

 

والمشكلة الكبرى في الإنترنت أن سلبياتها وعيوبها تخرج (في غالب الأحيان) من رحم الإيجابيات والمزايا، فهامش الحرية الكبير الذي تتيحه الإنترنت (على سبيل المثال) كما يُستثمَر في النواحي الإيجابية النافعة والمفيدة، كاكتساب المعرفة، والتواصل البنَّاء، وتلاقح الأفكار، يستغله أيضًا البعض في نواحٍ خبيثة، كإشاعة الفاحشة، ونشر الأفكار الضالة والمنحرفة، بل وفي الاحتيال والتغرير بالناس في أحيان كثيرة.

 

ومن أخطر مشكلات الإنترنت (في نظري) هي أنها عبارة عن مجتمع تخيلي، أي قائم على التخيل، وهذا التخيل إن لم ترافقه أمور أخرى تضبط ملامحه عبر وسائل اتصال أخرى، فإنه يظل مشوهًا. وأعني بالتشويه هنا عدم مطابقته للواقع، وليس الأمر متعلقًا بجمال أو قبح، فقد تكون الصورة التخيلية جميلة من حيث الشكل والموضوع، لكنها تعد مشوهة لعدم التأكد من كون الواقع يطابق هذا التخيل.

 

وليس هذا خاصًّا بالعلاقات بين الأفراد فقط، ولكنه أيضا ينطبق على مستوى المعلومات نفسها، حيث لا يكفي للتأكد من صدق أية معلومة وحقيقتها مجرد أنها موجودة على الإنترنت، إلا بعد أن يكتسب المصدر (الإنترنتي) مصداقية كبرى بعد كثير خبرة وتجربة من قبل المستخدم.

 

وإذا أضفنا إلى هذه المشكلة كون الإنترنت لا يؤتَمن على الخصوصية والأسرار، حيث كل شيء يمكن معرفته والتجسس عليه ومراقبته، ندرك هذا الخطر الذي قد تتعرض إليه سمعة من يتورط في أية علاقات غير أخلاقية عبر الإنترنت، وتبعات ذلك على حاضره ومستقبله، خاصة الفتيات بنات العائلات، والشخصيات العامة. والواقع مليء بكثير من الحوادث في هذا المضمار، والتي أدت تبعاتها إلى نتائج وخيمة على أصحابها.

 

ومن مشكلات الإنترنت تلك المشكلة التي أشرتِ إليها في رسالتك، والتي تعانين منها ابنتي الكريمة، وهي تحول استخدام الإنترنت إلى عادة متأصلة وإدمان متجذر في نفس الإنسان، ومرض يحتاج الشفاء منه إلى جهد جهيد، أشبه بالمخدرات التي تمتزج بدماء متعاطيها، وتتحول إلى جزء من تركيبته لا يمكن الاستغناء عنه إلا بشق الأنفس.

 

ولا يخفى أثر مثل هذا النوع من الإدمان على نفسية الإنسان وصحته، وعلاقته بالمجتمع من حوله، القريب والبعيد، وما يسببه من عزلة وقطيعة مجتمعية، حتى مع أقرب الناس إليه، وقد أشرت إلى تعرضك لهذا، وشعورك بتلك الآثار مع عائلتك.

 

ولا أظن أن واحدا ممن عرف الإنترنت قد أفلت من هذا المرض في بدايات تعامله معها، مع اختلاف نسبة الإصابة والتأثر من إنسان لآخر.

 

إذن ما الحل؟؟

 

الحل (في رأيي) يكمن في التوازن الذي يجب أن نصبغ به حياتنا، ونطبقه في شتى المناحي. وأقصد بالتوازن إعطاء كل شأن من شئون الحياة حقه وقدره من الاهتمام، فلا يطغى جانب على جانب، فيأخذ الجسم حقه، ويأخذ العمل حقه، ويأخذ الأهل حقوقهم، ويأخذ المجتمع حقه، وتأخذ العبادة حقها، وهكذا، مصداقا لقول سلمان رضي الله عنه، والذي صدَّق عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيما رواه البخاري: «إن لربك عليك حقًّا، ولنفسك عليك حقًّا، ولأهلك عليك حقًّا، فأعط كل ذي حق حقه».

 

والأمر يحتاج منك في بدايته إلى تخطيط وعزيمة وجهاد، حتى يصير طبيعة في حياتك، وأن تحددي لكل مهمة من مهمات حياتك وقتها اللازم لأدائها على الوجه الأكمل، وفق ترتيب لهذه المهمات حسب أهميتها وحسب الوقت المتاح لها.

 

وبالطبع سيكون جلوسك على الإنترنت إحدى هذه المهمات، وسيأخذ مكانه ووقته في سلم الأولويات لديك، بحيث لا تطغى على مهمة أخرى، مع ضبط داخلي لمهمة الإنترنت ذاتها، من حيث ما تقومين به عليها من أعمال، فتقومين بالتركيز على الأعمال النافعة لك ولغيرك (كالأعمال الطيبة التي أشرت إليها في رسالتك)، ولا يتعدى الأمر ذلك، حتى لا تسحبك إلى ما ليس من ورائه إلا الألم والندم، وأذكرك بأن هذا ليس بالأمر السهل في بدايته، بل يحتاج منك كما ذكرت إلى عزيمة قوية وهمة عالية، تكتسبينها من إيمانك بالله عز وجل، والثبات على طاعته، ومراقبته في كل الأوقات، والحرص على ما ينفعك، وتجنب ما يضرك.

 

أما من ناحية هذا الشاب الذي ارتبطت به عبر الإنترنت، ثم تطور الأمر لعلاقة هاتفية، (والله وحده يعلم إلى أي مدى ستتطور تلك العلاقة، وإلى أين ستأخذكما)، فأقول لك، بناء على المقدمة السابقة: إن ما حدث لك هو أمر طبيعي متوقع حدوثه، وأنت صاحبة القلب الأخضر الغض، الذي يتلمس طريقه وسط عالم جديد، عالم مليء بالخيالات، مليء بالتصورات الحالمة وغير الحقيقية في أحايين كثيرة، تساعد على تكريسها الطبيعة الساحرة لوسائل الاتصال (الإنترنت والهاتف) والتي يستطيع مستخدمها أن يستغلها لتوصيل الصورة التي يريدها، وهو يختبئ خلف قناع، أو عدة أقنعة يراوح بينها، فالكلام أو الصورة السطحية (وهما ما تتيحهما هذه الوسائل) لا يعطيان أبدًا انطباعًا كاملاً وحقيقيًّا عن صاحبهما، فليس كل البشر أفعالهم كأقوالهم، وليس كل البشر باطنهم كظاهرهم، ولم تظلل الأمانة عالم البشر حتى نطمئن إلى أن كل ما يقوله الإنسان عن نفسه هو صحيح، أو على الأقل غير مبالغ فيه.

 

وللخروج من هذه الحلقة المفرغة التي بدأت تعانين من التيه فيها، يجب عليك –ابنتي فجر– أن تجنحي من الخيال للحقيقة، ومن عالم الأحلام لعالم الواقع، فليس في أصل العلاقة مشكلة أو عيب أو مخالفة، وأقصد تحرك القلب والمشاعر نحو إنسان من الجنس الآخر، ولكن المشكلة تكمن في شكل هذه العلاقة، وقدرة الإنسان على توجيهها في المسار الشرعي والصحيح.

 

وبشكل مباشر –ابنتي– أقول لك: ليس في تعلقك بهذا الشاب أو تعلقه بك مشكلة حتى الآن، إن كان الأمر متوقفًا على حد المشاعر والميل القلبي، ولكن المشكلة فيما أدى إلى هذه المشاعر وفيما يتبعها من ممارسات خاطئة وتجاوزات ينكرها الشرع والعرف، من نظرة محرمة، أو خضوع بالقول، أو كلام غير مباح، أو خلوة، أو أو... إلخ.

 

وهذا الخروج الذي أريده منك مبني على تحديد هذه العلاقة، وتوجيهها في المسار الصحيح، إن كان لدى الطرفين رغبة في إيجاد حل يوافق الشرع، ويحميهما من الانزلاق في مهاوي المعصية، ويكون ذلك بأن تطلبي من هذا الشاب أن يتقدم إلى أهلك لطلب الزواج منك فورًا، إن كان بقدرته الزواج، فإن فعل، فهذا خير، بعد أن تتأكدوا من دينه وحسن أخلاقه وطيب معشره، وإن تعلل وتباطأ وسوَّف، فاعلمي أنه يتلاعب بك ويتسلى، وليس من ورائه خير، وحينها يجب أن تقطعي علاقتك به فورًا، غير آسفة عليه، مهما كان تعلقك به، وتمنعي كل وسائل الاتصال به نهائيًّا، دون تردد أو تأجيل، فكل لحظة تقضينها معه على هذه الحال فيها خصم من دينك، ومن أخلاقك، ومن سمعتك، ومن عمرك. وأحسبك لا ترضين أن تكوني ألعوبة في يد عابث، يستنزف عواطفك ومشاعرك، ويضيع سمعتك وكرامتك، حتى إذا لم يبق لديك شيء يأخذه منك تحول عنك إلى غيرك.

 

وفي الحقيقة، فإحساسك بخطأ ما تفعلين أمر يدعو للتفاؤل، حيث سيساعدك الوقوف على هذه الأرضية في إصلاح الوضع، والعودة إلى الاستقرار النفسي الذي تبحثين عنه.

 

أخيرا ابنتي الكريمة، أذكرك بقول الله عز وجل: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا)، فكوني في معية الله عز وجل، يرزقك من حيث لا تحتسبين ولا تتوقعين، والزواج رزق من الله عز وجل، فاطلبيه منه بتقواه وطاعته، يرزقك رزقًا حسنًا، تقر به عينك، ويطمئن به قلبك، إنه سبحانه وتعالى على ما يشاء قدير.

 

شرح الله صدرك، ووفقك لما يحبه ويرضاه، وتابعينا بأخبارك.