الإستشارة - المستشار : د. عادل عبد الله هندي
- القسم : مناهج الدعوة ووسائلها
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
27 - رقم الاستشارة : 2924
09/10/2025
شيخنا الكريم، طالما سمعت أن من سنن الوضوء أن يُسمّي المرء الله تعالى قبل أن يشرع فيه، لكن يرد على خاطري إشكال: ماذا لو كان الإنسان في الخلاء أو في مكان قضاء الحاجة، حيث لا يليق ذكر اسم الله عز وجل؟
وكيف يجمع المسلم بين حرصه على اتباع السنة في التسمية وبين احترام حرمة ذكر اسم الله في ذلك الموضع؟
ثم يزداد تساؤلي: هل لهذه السُّنّة الصغيرة – أعني التسمية قبل الوضوء – دور في بناء علاقة المسلم بربه، بل وهل يمكن للداعية أن يوظف مثل هذه التفاصيل الفقهية في تقريب القلوب إلى الله وربطها به؟
أهلا ومرحبًا بك أيها السائل المبارك، وأسأل الله الكريم أن يشرح صدرك، ويثبت قلبك، ويجعلك من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه. لقد سألت سؤالا يدل على حرصك على اتباع السنة، وعلى رغبتك في ربط عملك الظاهر بباطنك، وهذا شأن المؤمنين الصادقين.
نسأل الله أن يرزقك الإخلاص في السر والعلن، وأن يجعل حرصك على هذه السنة سببًا لرفعة درجتك يوم القيامة، كما ثبت: (إنك لن تدع شيئًا ابتغاء وجه الله إلا أعطاك الله خيرًا منه). واسمح لي بترتيب الإجابة في العناصر التالية؛ حتى ينتفع بها كل من قرأها أو اطلع عليها، ونسأل الله القبول..
أصل التسمية عند الوضوء في السنة النبوية
ورد في الحديث أن النبي ﷺ قال: (لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه) وقد اختلف العلماء في صحته، لكن أكثر المحدثين على أن الحديث له شواهد تجعله حسنًا لغيره، وعلى هذا، اختلف الفقهاء:
1. الحنابلة: يرون أن التسمية واجبة عند الذكر، تسقط بالنسيان أو العجز.
2. الجمهور (المالكية والشافعية والأحناف): يعدّونها سنة مؤكدة، فمن تركها صح وضوؤه ولكن فاته الفضل.
وعليه: فمن واظب على التسمية، فقد أحيا سنة ثابتة، واقتدى بالنبي ﷺ.
التسمية في الخلاء (المرحاض أو موضع قضاء الحاجة)
الخلاء مكان لا يليق فيه ذكر اسم الله تعالى، وذلك لما ثبت عن النبي ﷺ أنه إذا دخل الخلاء قال: (اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث) فلم يذكر اسم الله في الخلاء بلسانه، بل جعل الدعاء عند الدخول قبل الجلوس. فما الحل إذن إذا كان الوضوء يبدأ داخل الخلاء؟
1. إن أمكن أن يشرع الوضوء خارج الخلاء (حيث المغاسل أو الصنابير)، فيُسن أن يسمي باللسان قبل الشروع.
2. إن كان الوضوء لا بد أن يبدأ داخل الخلاء، كحال بعض البيوت أو الأماكن الضيقة: فيكفي أن ينوي التسمية في قلبه دون أن ينطق بها، وهذا ما نص عليه الفقهاء: قال ابن قدامة في المغني: "إن كان في موضع لا يذكر فيه الله، نوى التسمية بقلبه، وأجزأه". لأن الذكر باللسان متعذر، والنية محلها القلب، والله يعلم السر وأخفى.. إذن، المسلم لا يُحرم من السنة إذا كان في الخلاء، بل يستحضرها قلبًا ويشرع في الوضوء، والله يتقبله بنيته.
الحكمة من التسمية وأثرها في عبادة المسلم
قد يظن البعض أن التسمية قبل الوضوء مجرد لفظ صغير لا أثر له، لكن في الحقيقة هي مفتاح لمعنى عميق:
1. التسمية تذكير بالغاية حين يقول المسلم: "بسم الله"، يستحضر أن وضوءه ليس تنظيفًا ظاهريًا، وإنما عبادة يتقرب بها إلى الله، قال تعالى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ (البينة: 5).
2. التسمية إعلان نية فهي تُدخل القلب في حالة عبادة، وتعلن للروح أن هذا العمل لله، فيمتزج الظاهر بالباطن.
3. التسمية حماية من الشيطان: فإذا كان ذكر الله يحجب الشيطان عن النظر إلى العورات، فكيف بمن يستفتح وضوءه باسمه، أليس أولى أن يكون وضوؤه محروسًا من وساوس الشيطان؟
4. التسمية بداية لكل خير قال النبي ﷺ: (كل أمر ذي بال لا يُبدأ فيه ببسم الله فهو أبتر) أي: أقطع من البركة، والوضوء من أعظم أبواب الخير، فلا عجب أن يُستحب أن يبدأ ببسم الله.
البُعد الدعوي للتسمية قبل الوضوء
سؤالك هنا عميق أيها الحبيب: هل لهذه السنة البسيطة أثر دعوي؟ والجواب: نعم، وبقوة.
1. إظهار شمولية الإسلام عندما يرى غير المسلم أن المسلم يبدأ حتى وضوءه بذكر الله، يدرك أن الإسلام ليس دين طقوس جامدة، بل دين يربط العبد بربه في كل لحظة.
2. تعليم الصغار والمبتدئين حين يُعلَّم الطفل أو الداخل الجديد في الإسلام أن يبدأ وضوءه بالتسمية، يشعر أن حياته اليومية كلها مرتبطة بذكر الله. وهذا يعزز الهوية الإسلامية في قلبه.
3. الدعوة بالقدوة الصحابة لم يكونوا يلقون الخطب فقط، بل كانوا يمارسون هذه السنن أمام التابعين، فيتأثرون. مثل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، الذي كان يسمي عند وضوئه، فتعلم الناس منه دون وعظ مباشر.
4. معاصرة في الـدعوة في زمن تغلب فيه المادية والروتين الميكانيكي، يحتاج الناس إلى معنى يضيء حياتهم. والداعية الذكي يستطيع أن يبين أن الإسلام يعيد للإنسان المعنى حتى في تفاصيله الصغيرة.
خطوات عملية للمسلم والداعية
1. المسلم الفرد
- إن كان يبدأ وضوءه خارج الخلاء: فليقل التسمية جهرًا أو سرًّا.
- إن كان يبدأ وضوءه داخل الخلاء: فليكتفِ بالنية القلبية.
- ليجعلها عادة لا يتركها، حتى تصبح مفتاحًا لحضور القلب في الوضوء.
2. الداعية والمربي
- يربط الناس بفكرة أن الإسلام دين يذكر الله في كل تفصيلة.
- يوضح أن التسمية باب لتربية النفس على استحضار المعنى في العمل.
- يستخدمها في الخطاب الدعوي كمثال حيّ على أن الإسلام دين شامل.
3. التربية الأسرية
- يعلم الوالدان أبناءهم: "قبل الأكل قل بسم الله، قبل النوم قل بسم الله، قبل الوضوء قل بسم الله."
- فينشأ الطفل محاطًا بالذكر في كل حركة.
معنى التسمية في واقعنا المعاصر
في زمن السرعة، حيث يدخل الإنسان الخلاء ويخرج مسرعًا، ويتوضأ بلا حضور قلب، تأتي التسمية لتبطئ إيقاع اللحظة، ولتقول: قف، أنت الآن بين يدي الله... إنها دعوة لاستعادة البعد الروحي في زمن المادية. فالمسلم الذي يسمي قبل وضوئه، كأنه يعلن تحديًا للغفلة: أن حياته كلها لله.
أيها السائل الكريم، لا تستهن بهذه السنة الصغيرة؛ فهي جسر يصل قلبك بربك، وهي مفتاح لخشوعك في الصلاة، وهي سبب لحفظك من الشيطان، وهي باب للدعوة.
واحرص على أن تبدأ كل أعمالك باسم الله، لتعيش حياتك كلها تحت بركة هذا الاسم العظيم.
أسأل الله أن يوفقك لاتباع السنة ظاهرًا وباطنًا، وأن يجعل وضوءك نورًا على وجهك يوم القيامة، كما قال ﷺ: (إن أمتي يُدعون يوم القيامة غُرًّا محجلين من آثار الوضوء).
روابط ذات صلة: