كيف نفهم التناقض بين إنسانية الغير وخذلاننا للحق؟

Consultation Image

الإستشارة 11/10/2025

شيخنا الفاضل، أمر يحيرني ويقلق قلبي، فأرجو أن أجد عندكم الجواب الشافي. نرى في واقعنا اليوم أناسًا من غير المسلمين – من يسمون بالكفار – يقومون بمواقف إنسانية عظيمة: يدافعون عن المظلومين، يقفون في وجه الطغاة، يعرضون أنفسهم للسجن أو الضرب من أجل نصرة الضعفاء، وقد يتبرعون بالأموال أو يناصرون قضايا عادلة. لكن الغريب أنهم في الوقت ذاته يؤيدون أو يبررون أمورًا محرمة شرعًا، كالشذوذ والزنا، بل يرفعون شعارات مناقضة لدين الله.

وفي المقابل، نجد بين المسلمين – وهم أهل القرآن – من يتقاعس عن أبسط صور نصرة الحق، حتى مجرد مقاطعة منتجات المعتدين أو نشر كلمة حق عبر وسائل التواصل، فلا يتحرك له ساكن.

فكيف نفهم هذا التناقض؟ أليس إحياء القلوب مرتبطًا بالإيمان بالله واتباع دينه؟ وكيف تكون قلوب بعيدة عن الهداية أقرب إلى الرحمة العملية من قلوبٍ مؤمنة لم تتحرك لنصرة الدين؟ أرجو توضيح هذا الإشكال بما يرفع اللبس ويزيد يقيني.

الإجابة 11/10/2025

أخي المبارك، مرحبًا بسؤالك الذي يدل على حرصك على فهم سنن الله في الخلق، وعلى غَيرتك على دينك وأمتك. وأسأل الله -ابتداء- أن يفتح لك بصائر الحقائق، وأن يجعلك من عباده الذين يرون بنور القرآن، ويزنون الأمور بميزان الشرع، وأن يثبتك على طريق الحق حتى تلقاه وهو عنك راضٍ.

 

الفرق بين "الفطرة الإنسانية" و"نور الإيمان"

الفطرة التي فطر الله الناس عليها: قال الله تعالى: ﴿فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾، فكل إنسان يولد على فطرة تميل إلى الخير والرحمة والعدل وكراهية الظلم. وهذه الفطرة قد تبقى حية عند غير المسلم فيدافع عن المظلومين، وقد تضعف أو تُطمس عند بعض المسلمين بسبب الشهوات أو الغفلة.

 

ونور الإيمان: فالفطرة وحدها لا تكفي، بل تحتاج إلى وحي يوجهها ويضبطها. قال النبي ﷺ: (ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه) فالفطرة الأصلية قد تُحرف، لكن يبقى فيها بقايا خير قد تظهر في مواقف إنسانية، وإن غابت عنها الهداية الكاملة.

 

لماذا نجد عند الكفار مواقف إنسانية؟

 

أتصور أن هذا يعود إلى الآتي:

 

1. استبقاء الفطرة: قد يبقى في قلوب بعضهم بقايا من الرحمة والعدل، تدفعهم لنصرة الضعيف.

 

2. الدوافع القومية أو السياسية: أحيانًا يتحركون بدافع مصلحة وطنية أو أيديولوجية، لا حبًّا في الحق لذاته.

 

3. طلب السمعة أو الوجاهة: بعضهم يتحرك بدافع الشهرة الإعلامية أو تحقيق مكاسب دنيوية.

 

4. إرادة الخير الجزئي: قد يريدون الخير في جانب، لكنهم يضلون في جانب آخر.. إذن: أفعالهم لا تُنكر من حيث الظاهر الإنساني، لكنها لا تُغني عنهم عند الله شيئًا ما داموا لم يؤمنوا به ويتبعوا رسوله ﷺ، قال مولانا جل وعلا: ﴿وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا﴾ (الفرقان: 23).

 

لماذا يتقاعس بعض المسلمين؟

 

وتقاعس البعض ناتج عن أسباب وعلل، من أخطرها ما يأتي:

 

1. ضعف الإيمان وقلة اليقين: قال تعالى: ﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلَّا وَهُم مُّشْرِكُونَ﴾ فقد يؤمن المسلم بالله لكن يقصر في العمل.

 

2. غلبة الشهوات والملذات: بعض القلوب أُشغلت بالدنيا حتى مات فيها الإحساس بالواجب.

 

3. الخوف والجبن: يخافون من الخسائر الدنيوية فيقعدون عن نصرة الحق.

 

4. غياب التربية الإيمانية: لم يتربَّ كثير من المسلمين على عزة الدين وواجب نصرة المظلوم.

 

واعلم بأنّ:

 

* الكافر قد يُظهر رحمة في موقف، لكنه لا يعرف الميزان الحق الذي يوجه هذه الرحمة. فيناصر المظلوم لكنه يقر الفواحش.

 

* المسلم قد يعرف الحق، لكن قلبه ضعيف، فلا يعمل به. وهذا أخطر، لأنه ترك العمل مع العلم، لذلك قال تعالى: ﴿كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾ فالنجاة الحقيقية لا تكون بمجرد الرحمة الإنسانية، ولا بمجرد الانتماء للإسلام بالاسم، بل بالجمع بين الإيمان الحق والعمل الصالح.

 

والشواهد التاريخية التي تؤكّد ما سبق، ما يأتي من مواقف:

 

1. هذا المطعم بن عدي (مشرك قريش): أجار النبي ﷺ بعد عودته من الطائف، ودافع عنه حتى دخل مكة آمنًا. ومع ذلك مات على الشرك، فما أغنى عنه عمله في الآخرة. قال ﷺ في بدر: (لو كان المطعم بن عدي حيًّا ثم كلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له) فشُكر فعله دنيويًّا، لكنه لم ينفعه أخرويًّا.

 

2. المسلمون الأوائل: مع قلة عددهم وضعف إمكاناتهم، كانوا أسرع الناس إلى نصرة الحق. انظر إلى مصعب بن عمير رضي الله عنه الذي ترك نعيم الدنيا، وجعل حياته كلها لله، فنصر الدعوة حتى استشهد.

 

3. العصور اللاحقة: كم من مواقف للمسلمين – مثل تحرير بيت المقدس بقيادة صلاح الدين – برهنت أن القلوب الحية بالإيمان تستطيع أن تحقق المعجزات، بينما القلوب الغافلة – وإن كانت مسلمة – تهزمها شهواتها.

 

وقد تسألني هنا: كيف نفهم العلاقة بين إحياء القلوب والدين؟

 

أقول لك وللجميع:

 

* الرحمة الفطرية عند الكافر: هي مجرد نزعة إنسانية، قد تمتد إلى أعمال، لكنها لا تُثمر في الآخرة إلا إذا ارتبطت بالإيمان.

 

* الرحمة الإيمانية عند المسلم: إذا ارتبطت بالعقيدة والعمل، كانت عبادة يتقرب بها إلى الله، ويثاب عليها في الدنيا والآخرة، فإحياء القلب الحقيقي إذن مشروط بالإيمان، كما قال تعالى: ﴿أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ﴾

 

ومما يُستفاد من دروس عملية للمسلم اليوم:

 

1. اعلم أن الرحمة الفطرية لا تكفي: فليست كل دمعة رحمة ولا كل وقفة شجاعة منجية عند الله ما لم تكن على هدى.

 

2. حاسب نفسك كمسلم: لماذا لا تتحرك لنصرة الحق؟ أليس الإيمان الحق يفرض عليك أن تتحرك ولو بالكلمة؟

 

3. ابدأ بالأقل الممكن: إذا لم تستطع أن تجاهد بيدك، فجاهد بلسانك، أو بقلبك، أو بمقاطعة من ظلمك، وهذا أضعف الإيمان.

 

4. اغتنم وسائل العصر: السوشيال ميديا ليست مجرد لهو، بل ساحة جهاد بالكلمة والصورة، فكن ممن يوظفها لنصرة المظلومين.

 

5. اعلم أن الدين يعيد التوازن: فلا تبالغ في تقديس إنسانية الكفار، ولا تحتقر كل مسلم مقصر، بل زد نفسك التزامًا، وادعُ لغيرك بالهداية.

 

أيها السائل الكريم، لقد كشف سؤالك عن إشكال يعيشه كثير من الناس: كيف نرى رحمة في قلوب بعيدة عن الله، ونرى قسوة في قلوب قريبة من الإسلام؟ والجواب: أن الرحمة الفطرية بلا إيمان قاصرة عن النجاة، وأن الإيمان بلا عمل ذليل لا يُثمر في الأرض.

فالواجب أن نجمع بين الإيمان الصادق والعمل الحق، فنصير عبادًا لله بالاعتقاد وبالحركة في الواقع. وهنا فقط يحيا القلب ويقوى أثره.

 

أسأل الله أن يملأ قلبك نورًا ويقينًا، وأن يجعلك من الداعين إلى الحق والناصرين له في القول والعمل، وأن يحيي بك قلوبًا غفلت، وينفع بك أمة محمد ﷺ.

 

روابط ذات صلة:

خطب الجمعة وخذلان غزة.. الواقع المرير

لماذا يهاجم بعض الدعاة مشروع المقاومة؟

صوت الضمير.. في الغرب

الرابط المختصر :