Consultation Image

الإستشارة
  • المستشار : أ. مصطفى عاشور
  • القسم : فكرية
  • التقييم :
  • عدد المشاهدات : eye 35
  • رقم الاستشارة : 1349
17/03/2025

نلاحظ الكثير من الأنانية في تعاملات الأشخاص، ولا شك أنها مشكلة أخلاقية سلوكية.. لكن هل الأنانية ترتبط بالمادية التي لا ترى في الحياة إلا الذات الضيقة؟

الإجابة 17/03/2025

لا شك أن الأنانية مشكلة أخلاقية وسلوكية، ملازمة للإنسان، وجاءت الأديان والرسالات لتعالج مشكلات الإنسان الاعتقادية والسلوكية، ومنها الأنانية، التي تعني الانحصار في الذات والرغبة في تحقيق نفعها حتى ولو جاء على حساب الآخرين، كذلك الاستئثار بالنفع وجعله محصورًا في الذات أو في الدائرة الضيقة القريبة من ذلك الشخص، لكن أزمة الأنانية الكبرى تكمن في الخضوع للرؤية المادية والثقة فيها.

 

الأنانية والمجتمعات الحديثة

 

في المجتمعات الحديثة أصبحت الأنانية هي الفكرة الشائعة؛ فكل ما يحيط بالإنسان المعاصر يغذي فيه الأنانية، والصراع، والاستئثار بالخير، والنفعية الشديدة، ويحصره في ضيق ذاته، وتصبح غايته الربح بغض النظر عن أي اعتبار، ليصبح نفسه هي ما يشغله فقط تلبية لمتعتها ورفاهيتها.

 

وفي مجال التدين، وهي ظاهرة منتشرة الخطاب الديني في العالم، نجد الاهتمام بالأخلاق الفردية، ورسم الطريق للخلاص الفردي، وحث الفرد على القيام ببعض الأعمال الخيرية الفردية في ظل غياب الإطار الجماعي أو المجتمعي، وكأن نجاة الفرد الدينية أن ينجو هو دون الالتفات إلى نثر الخير حوله ودفع الآخرين للنجاة مثله، ونجد ذلك في النموذج البروتستانتي الذي أكد على واجبات الفرد الدينية وخلاصه الفردي، فكانت مدخلاً للرأسمالية، وهو ما أكده عالم الاجتماع الألماني "ماكس فيبر" (ت: 1920) في كتابه "الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية"، أن الأخلاق البروتستانتية ساعدت على تكوين الرأسمالية الجديدة.

 

فمع التنوير والعلمنة والحداثة وما صاحبها من تغيرات عميقة في بنية القيم الإنسانية أصبحت الأنانية فضيلة، ولا تُقابل باستهجان، فنجد –مثلاً- الفيلسوف الإنجليزي "توماس هوبز" في القرن السابع عشر، يعتبر أن المصلحة أو المنفعة هي الدافع الإنساني الأساسي، وجادل هؤلاء بأن الطبيعة الإنسانية أنانية، والأنانية مترسخة، فظهر مذهب الأثرة أو المنفعة أو الأنانية، والذي تطور مع "جيرمي بنثام" و"جون ستيوارت ميل".

 

ومن هنا فقد سيطرت نماذج التفكير النفعية على الحياة المعاصرة، وادّعى البعض بأن الناس كلهم أنانيون، وأن تلك الأنانية تتوافق مع الطبيعة البشرية المتأصلة في الإنسان، تلك النفعية التي تجعل كل قرارات الإنسان ومواقفه تخدم مصلحته الخاصة، ويذهب أنصار هذا الرأي أن البشر مفطورون على الذاتية والأنانية؛ لأن تلك الفطرة هي آلية للبقاء متأصلة في الإنسان، وفي المجتمع الحديث التي تحتدم فيه المنافسة فإن هذه الطبيعة البشرية الأنانية تعبر عن نفسها بوضوح وبشراسة للحصول على منافع الشخص واحتياجاته حتى ولو أتت على حساب الآخرين.

 

لكــــــــــن يجب فهم الأنانية المتفشية في المجتمعات المعاصرة في ظل سيطرة ثقافة السوق على كل شيء، ليصبح السوق هو المقياس، فهذه الروح تنشئ المنافسة الحادة، وتغذي شره الأنانية.

 

ومما غذّى الأنانية تراجع القيم الدينية، وغياب القواعد التي تحدد السلوك الأخلاقي للفرد والجماعي، وذلك راجع إلى ضغط الحداثة طيلة القرون الثلاثة الماضية على الأديان، وسعيها إلى تنحية الدين بعيدًا عن مجال التأثير العام، وقصره على حدود الفرد فقط، فهذا الضغط الحداثي على الدين، أنتج نمو الأنانية لتسيطر على الإنسان والمجتمع.

 

هناك حديث عن وجود ارتباط ما بين الأنانية والفلسفة العدمية، تلك الفلسفة التي لا تؤمن بأية قيمة، وليس لها غاية، وتتملكها رغبة في التدمير، وربما من تجليات هذا الارتباط في الحياة الاجتماعية الرغبة في عدم الزواج وعدم الإنجاب، فبسبب تلك الأنانية تتآكل قيمة الأسرة ورعاية الأطفال لصالح الاستغراق في المتعة الذاتية الفردية.

 

لكن الأصوات الغربية بدأت تضج من تفشي سلوك الأنانية في مجتمعاتها، ورأت أن الأنانية تهدد نمو المجتمعات، فنجد –مثلاً- الحاخام البريطاني "جوناثان ساكس" يرى أن المجتمع كلما كان أكثر تدينًا كانت الأسرة أكبر، وأن القارة الأوروبية تحتضر لأن الناس أصبحوا أكثر أنانية وأقل إقبالاً على الزواج والإنجاب.

 

أما البروفيسور الإنجيلي "بول براونباك" في كتابه "ترخيص الإنانية" فانتقد الترويج للأنانية في المجتمع الأمريكي، ورأى أنها تحولت لأيديولوجيا تطل برأسها في الثقافة ومن خلال وسائل الإعلام، معتبرًا هذا الترويج غير صحي للمجتمع، وأنه لا بد من تعزيز ثقافة التعاون والمودة؛ لأن الخير والعطاء قادران على تحرير الإنسان من السلوكيات الخاطئة.

 

وتظل للأنانية فاتورتها الباهظة على الفرد ومحيطه الاجتماعي، فهي ترتبط بسلوكيات أخرى تساندها وتعززها، مثل البخل والشح والاستغلال والقسوة وقطع الأرحام وإضعاف التراحم الاجتماعي، أما ثمارها المرة فهي الكراهية وانتشار الحقد والحسد والتنافس والجريمة والتشفي وإضعاف تماسك المجتمع وتغييب الأهداف النبيلة والغايات السامية التي تتجاوز فكرة المكسب والربح؛ فالسعادة الحقيقية تكمن في الخروج من شرنقة الذات.

الرابط المختصر :