Consultation Image

الإستشارة
  • المستشار : أ. مصطفى عاشور
  • القسم : فكرية
  • التقييم :
  • عدد المشاهدات : eye 101
  • رقم الاستشارة : 1218
07/03/2025

أشاهد في الحياة أن الذين يفعلون الخير أصحاب أفكار جيدة.. فهل لفعل الخير تأثير على عقولنا؟

الإجابة 07/03/2025

لا شك أن فعل الخير يعيد تشكيل أفكارنا بصورة إيجابية نحو ذواتنا ومحيطنا الاجتماعي وبيئتنا الواسعة، خاصة إذا كان هذا الخير يفيد الآخرين ويسعدهم، ويزيح عنهم الكثير من الضغوط والهموم، مثلما يقوم به المسلمون من الإنفاق الخيري على المحتاجين في رمضان وتوفير أساسيات الحياة لهم.

 

الخير بعيدًا عن المادية

 

والحقيقة أن سؤال الخير قديم في الفلسفة خاصة الفلسفة الأخلاقية وبخاصة الدينية؛ بل إن الخير هو الموضوع الرئيس في فلسفة الأخلاق، رغم أن معنى الخير متغير تبعًا لتلك الفلسفات، فقد اعتبره بعضهم الفضيلة الأسمى التي تتفرع منها جميع الفضائل، وربط آخرون بين الخير والنفعية، حيث يحقق بذل الخير اللذة والسعادة.

 

وقد يكون المهم الحديث عن العلاقة بين المادية ومفهوم الخير؛ فالدراسات تؤكد أن دماغ الإنسان مصمم للتفاعل مع أفكارنا، فإذا كان لدى الإنسان مشاعر سلبية فإن ذلك ينعكس على أفكاره؛ فالأفكار تشبه عجلة القيادة، أما المشاعر فتشبه السيارة، وهو ما يؤكد الترابط بين الأفكار والمشاعر وبين القيم ومنها فعل الخير.

 

الكثير من الدراسات الحديثة تؤكد أن المادية المتمثلة في الاستهلاك وامتلاك المال واقتناء الأشياء لا تحقق السعادة، وأن تحقيق الرفاهية النفسية وخاصة السعادة يرتبط بالتوجه القيمي للشخص، وهذا الارتباط ملحوظ في مسار الإنسان؛ نظرًا لأن قيم المادية، رغم ما تحققه من مكاسب مادية ظاهرية للإنسان وتمده بالمال، فإن المادية تحمل معها فجوات في تلك الشخصية لعل أهمها الأنانية، التي قد تجعل الشخص يضن بفعل الخير عن الآخرين، ويتكتم على سعادته.

 

تشير الدراسات الاجتماعية إلى أن سعادة الإنسان تتعمق من خلال مشاركة الآخرين، والنادر من البشر هو ما يغلق عليه بابه ويتخفى بالسعادة، ولذا خلصت الدراسات إلى أن التوجه نحو الاستهلاك والمادية والثروة ليس السبيل الأمثل للرفاهية النفسية.

 

وهنا يطرح السؤال نفسه، هل يستطيع الخير أن يحقق السعادة للإنسان وأن يغير الأفكار لتكون إيجابية ونافعة؟

 

الخير ذو طاقة إيجابية، تُحسن اتصال الإنسان بمن حوله بما فيهم نفسه حيث يخرجها من ضيقها إلى رحابة الإنسانية، وهو ما يخفض حدة التوترات والأزمات النفسية والمشكلات السلوكية؛ لذلك كان دفع الناس إلى فعل الخير والمشاركة في نفع الآخرين من وسائل العلاج النفسي والسلوكي، وهناك دراسة أجريت على ما يقرب من 1300 شخص تجاوز عمرهم الخمسين عامًا، وجدت أن أولئك الذين لديهم هدف كانوا أكثر تفاؤلاً وأقل شعورًا بالوحدة والاكتئاب.

 

وفي دراسة أخرى نشرت عام 2019 خلصت إلى أن التعاطف واللطف مع الآخرين، من مسببات إبطاء الشيخوخة؛ ففعل الخير المتمثل في الرحمة يطلق هرمونات تؤثر في دماغ الإنسان، بما يشبه العقاقير والأدوية، وأكدت دراسات ثالثة أن فعل الخير ذو تأثير إيجابي على مرضى السكر، وأرجعوا السبب، إلى انخفاض التوتر، وما يفرزه من هرمونات في الدم، لتحفيز الجهاز العصبي، مما ينعكس إيجابيًّا على مستوى السكر، كما أجُريت دراسات على بعض مرضى السرطان، وخلصت إلى وجود تأثيرات إيجابية لفعل الخير على المرضى؛ فتقوية روابط هؤلاء المرضى من الناحية الاجتماعية، تمنحهم حالة من الرضا والسعادة تنعكس إيجابيًّا في رفع مناعتهم، وقدرتهم على مواجهة السرطان، وتقليل آلامه.

 

أكد أطباء نفسيون أن كونك طيبًا وخيرًا، هو أمر مفيد للجسم والعقل؛ بل ذهبوا أبعد من ذلك، بتأكيدهم أن مشاهدة الشخص للأعمال الطيبة لها تأثيرات جيدة على الصحة؛ لأنها تُقوي القلب، وأرجعوا السبب إلى "الأوكسيتوسين" أو هرمون الحب، الذي يخفض ضغط الدم ويساهم في صحة القلب، كما أن فعل الخير يثير ما يسمى "نشوة المساعدة" التي تحقق الرضا والسعادة، كذلك يحفز فعل الخير والتعاطف إنتاج "السيروتونين" أو هرمون السعادة، الذي يعزز الهدوء النفسي والاسترخاء، ويقاوم الاكتئاب والقلق والتوتر؛ بل يساهم في التئام جروج الجسد، فهو يداوي جروح الجسد والروح، كما أن فعل الخيرات يقلل إفراز "الكورتيزول" أو هرمون التوتر، وهو ما يدفع الإنسان إلى الهدوء والطمأنينة.

 

ونشير هنا إلى توجيه القرآن الكريم إلى فعل الخيرات سرًّا وعلانية، ففعل الخير في العلانية لا يقل أهمية عن فعله في السر؛ فالعلانية تخلق حالة تأسي في المجتمع، فتحاصر الأنانية والشح وإيثار النفس، لذلك رفضت تعاليم الإسلام، أن يكون المسلم متبلد الإحساس، قليل النفع، عديم الخير، مع الدوائر المحيطة به، فنجد أن فعل الخير مع الأقارب والجيران أقرب عند الله تعالى، وأكثر ثوابًا وأجرًا، والمعنى الاجتماعي الكامن وراء ذلك هو الحرص على تحقيق التماسك الاجتماعي، ولا يتأتي ذلك إلا بالإحساس المشترك، لأن فعل الخير يشبه "مادة الأسمنت" يتحقق بها تماسك المجتمعات وصلابتها وصمودها أمام التقلبات.

 

وصدق الله تعالى إذ يقول: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}، يقول الإمام الرازي في تفسير تلك الآية (77) في سورة الحج: "الصلاة نوع من أنواع العبادة، والعبادة نوع من أنواع فعل الخير؛ لأن فعل الخير ينقسم إلى خدمة المعبود الذي هو عبارة عن التعظيم لأمر الله، وإلى الإحسان الذي هو عبارة عن الشفقة على خلق الله ويدخل فيه البر والمعروف والصدقة على الفقراء وحسن القول للناس فكأنه سبحانه قال كلفتكم بالصلاة بل كلفتكم بما هو أعم منها وهو العبادة بل كلفتكم بما هو أعم من العبادة وهو فعل الخيرات".

الرابط المختصر :