الإستشارة - المستشار : أ. فتحي عبد الستار
- القسم : إيمانية
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
70 - رقم الاستشارة : 1819
03/05/2025
أنا رجل جاوزتُ الستين من عمري، وأحمد الله أن بلغني هذا العمر، بعد مسيرة طويلة من الكفاح في الحياة، تنقّلتُ فيها بين همّ الرزق، وتربية الأولاد، والسعي للاستقامة ما استطعت، رغم العثرات التي لم تَخْلُ منها حياتي، شأن كلّ بشرٍ يرجو رحمة ربه.
ومع تقدّم سني، أجدني كثير التفكير في الخاتمة، لا سيّما مع ما أراه حولي من موت الفجأة، أو من أُناس رحلوا قبل أن يُهيّئوا الزاد.
يراودني سؤال ملحّ: هل للإنسان أن يشعر بعلامات حسن الخاتمة في حياته، أو يُبشَّر بها بطريقةٍ ما وهو لا يزال حيًّا؟ وإن كان ذلك ممكنًا، فما هي الأمور التي يُرجى أن تُعين على بلوغ تلك الخاتمة الطيبة التي نسأل الله أن يُكرمنا بها؟
إنني –على ما كان من تقصير– ما زلتُ أطمع برحمة الله، وأحاول أن أستزيد من الطاعات، لكن النفس تضعف أحيانًا، والوساوس تتكاثر، فأحببت أن أسمع من أهل العلم ما يُطمئن القلب، ويُرشد إلى سبيل النجاة.
جزاكم الله خيرًا، وجعل ما تقدّمونه في ميزان حسناتكم.
مرحبًا بك أيها الأخ الفاضل، ونشكرك على مراسلتنا، ونسأل الله –تعالى- أن يبارك في عمرك، ويحسن خاتمتك، ويجزيك عن سنِيِّ الكفاح، وسعيك في دروب الطاعة، خير الجزاء، وأن يفيض على قلبك طمأنينةً ورضًا، ويرزقك من فضله واسع الرجاء وجميل العطاء، وبعد...
فما تحمله –أخي الكريم- من همِّ الخاتمة، وما تشعر به من خوف وتقصير، إنما هو من علامات الإيمان الصادق، واليقظة القلبية، التي يفتح الله بها على عباده المختارين.
هل يمكن أن يُبشَّر الإنسان بحسن الخاتمة وهو حيٌّ؟
نعم، وهذا من فضل الله الواسع، أن يجعل لحسن الخاتمة علامات يُشتَمُّ عبيرها قبل الرحيل، أو مبشّراتٍ يُكرم بها من شاء من عباده في حياته، ليزداد قلبه يقينًا، وعزمه على الخير ثباتًا.
ومن دلائل هذا المعنى ما ورد في الحديث الصحيح: "إذا أراد الله بعبدٍ خيرًا استعمله"، قالوا: وما استعمله يا رسول الله؟ قال: "يوفّقه لعملٍ صالحٍ قبل الموت" [رواه أحمد والترمذي وصححه الألباني].
فهذه البشارة تكون في الدنيا، بأن يُلهم الله عبدَه التوفيق للأعمال الصالحة، والتوبة، وإحسان الخُلق، والإقبال على القرآن، والاجتهاد في الطاعات قبل الرحيل. وهذه من أوسع أبواب البُشرى، وإن لم يُدرك العبد أنها بُشرى.
وقد قرَّر أهل العلم أن حسن الخاتمة ليست فقط عند لحظة الموت، بل تُبنى في أيام الحياة كلها، فكلَّما رأيت من نفسك إقبالًا على الله، وندمًا على الذنب، واستقامةً بعد انحراف، علمت أنها علامات خير، وأن قلبك ما زال حيًّا، وأن الله لم يُغلق في وجهك الباب.
وقد قال رسول الله ﷺ: "إن العبد إذا كان في إقبالٍ من الآخرة وانقطاعٍ من الدنيا، نزلت إليه ملائكة الرحمة... فإذا خرجت روحه، صلَّت عليه كلّ روحٍ بين السماء والأرض» [رواه أحمد والطبراني].
أرأيت؟ تبدأ البشائر من لحظة الإقبال، حين يتوجَّه العبد لله، فيُهيِّئ الله له ما يليق بالخاتمة الحسنة.
علامات حسن الخاتمة عند الموت
ذكر العلماء عدة علامات على ذلك، دلَّت عليها النصوص، ومنها:
1- النطق بالشهادة عند الموت:
قال النبي ﷺ: "من كان آخر كلامه: لا إله إلا الله، دخل الجنة" [رواه أبو داود].
2- الوفاة على عمل صالح:
كرجل يُقبَض وهو ساجد، أو صائم، أو حاج، أو مجاهدًا في سبيل الله.
3- الوفاة في يوم مبارك:
قال ﷺ: «ما من مسلم يموت يوم الجمعة أو ليلة الجمعة، إلا وقاه الله فتنة القبر» [رواه الترمذي].
4- الوفاة بسبب مرضٍ أو غرق أو حريق أو هدم:
فقد قال ﷺ: «الشهداء خمسة: المطعون، والمبطون، والغريق، وصاحب الهدم، والشهيد في سبيل الله» [رواه البخاري].
ما السبيل إلى بلوغ هذه الخاتمة الطيبة؟
وهنا نصل إلى الجواب العملي، الذي يورث الطمأنينة بإذن الله، وهو أن نسعى في الأسباب التي يُرجى معها حسن الختام، ومنها:
1- الثبات على الاستقامة ولو مع العثرات:
فكلُّنا خطَّاؤون، ولكن الموفَّق مَن إذا زلَّ عاد، وإذا ضعف استند على الله، وإذا نسي ذكر. قال تعالى: ﴿إنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ المَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا ولا تَحْزَنُوا وأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ﴾ [فصلت: 30].
2- كثرة الدعاء بحسن الخاتمة:
وهو من أعظم ما يُرجى به ذلك، وكان السلف يلحُّون به في أدعيتهم، فختمُ الحياة نعمة لا تُنال إلا من الرحيم الكريم. ومن الدعاء النبوي: "اللهم اجعل خير عملي آخره، وخير أيامي يوم ألقاك" [رواه الطبراني وحسَّنه الألباني].
3- حُسن الظن بالله:
فما دام القلب يحسن الظن، ويرجو الله، فالله عند ظن عبده به. قال النبي ﷺ: "قال الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي، فليظن بي ما شاء" [رواه أحمد].
وهذا يشملك تمامًا، حين قلت: "ما زلتُ أطمع برحمة الله، وأحاول أن أستزيد من الطاعات"، هذا الطمع هو أوثق حبال النجاة.
4- المحافظة على الأعمال الخفية بينك وبين الله:
كذِكر الله في الخلوة، ودمعة في سجدة، وصدقة لا يعلم بها أحد، وقيام الليل، كلها أعمال قد تكون هي مفتاح الخاتمة الطيبة.
5- ردُّ حقوق العباد:
فالعبد قد يغفر الله –تعالى- له ما بينه وبينه، ولكنه يحاسبه على ظلمه وتقصيره تجاه الناس، إلا أن يعفوا عنه. فليحرص المرء على التسامح، وطلب المسامحة من الناس، والتحلل من المظالم.
وختامًا -أخي الكريم- تأمل هذا الحديث: "إن الله إذا أحبَّ عبدًا عَسَّله"، قيل: وما عسَّله يا رسول الله؟ قال: "يفتح له عملاً صالحًا بين يدي موته، حتى يرضى عنه من حوله" [رواه أحمد والطبراني].
فإن رأيت الله قد رزقك هذا التفكير، وهذه الرغبة في الطاعات، وهذا الخوف من التقصير، فاعلم أنَّ الله يحبك، ويريد أن يعسِّلك، فلا تتوقف، ولا تلتفت للوساوس، وامضِ بقلبٍ خاشع، ولسانٍ ذاكر، وسعيٍ متواصل.
فيا رب، يا مقلِّب القلوب، ثبِّت قلب أخينا هذا على دينك، وبلِّغه من الطمأنينة ما يُطفئ وساوسه، ومن الرضا ما يُنسيه آلامه، واجعل له ولنا حسنَ الخاتمة، وحُسنَ المآل.
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.