Consultation Image

الإستشارة
  • المستشار : أ. مصطفى عاشور
  • القسم : فكرية
  • التقييم :
  • عدد المشاهدات : eye 110
  • رقم الاستشارة : 1201
06/03/2025

لا شك أن للعقل مكانته في الاسلام.. لكن ماذا عن المغالاة في التسليم للعقل؟ وهل للعقل حدود يجب ألا يتخطاها؟

الإجابة 06/03/2025

على مدار التاريخ وقعت مغالاة في الإيمان بالعقل في غالب الفلسفات القديمة والحديثة، بما فيها الإسلامية، ودارت نقاشات في الجانب الديني والفلسفي حول حدود وإمكانات العقل، وهل كل القضايا والموضوعات مطروحة أمام العقل للخوض فيها، وهل يمتلك العقل القدرة على فهم ما يغيب عنه؟

 

محدودية العقل طبيعية

 

قد يكون من الأهمية أن نلقي نظرة على ما طرحته الأبحاث والدراسات الحديثة في علم الدماغ والأعصاب حول العقل وقدراته الاستيعابية وإمكانية توسيعها.

 

عقد العلماء مقارنة بين دماغ النحلة ودماغ الفيل، فوجدوا أن دماغ النحلة لا يزيد عن واحد ملي جرام، ورغم ذلك فهو قادر على أداء مهام مثل التنقل عبر المتاهات والمناظر الطبيعية على قدم المساواة مع الثدييات، أما دماغ الفيل فهو أكبر من دماغ النحلة بـــ5 ملايين مرة، ورغم ذلك فإن الإشارات ما بين دماغ الفيل وقدمه -مثلا-تستغرق وقتًا أكثر مائة مرة مقارنة بالنحلة، كما أن الكثير من حركات الفيل هي رد فعل على ما يقوم به الآخرون.

 

ولكن ما علاقة ذلك بحدود العقل؟

 

أبحاث الدماغ الحديثة تؤكد أن العقل آلة جبارة تجري فيها تفاعلات معقدة بين المعلومات والذكريات والمشاعر والأحلام، لتصوغ في النهاية أفكارنا ورؤيتنا، وتشير الأبحاث إلى أن الدماغ البشري يحوي على (100) مليار خلية عصبية على أقل تقدير، ورغم ذلك فإن قدرات العقل لها حدود.

 

أما على الجانب الفكري والفلسفي، فإن الإيمان الكامل بقدرات العقل، وأنه ليس له حدود إلا ما يحدده العقل لنفسه، فتلك رؤية كانت محل اختلاف فكري وفلسفي كبير، لكن بروزها الأكبر كان مع انتشار الدارونية في نهاية القرن التاسع عشر والتي تنصُّ على أنَّ "جميع أنواع الكائنات الحية تنشأ وتتطور من خلال عملية الانتقاء الطبيعي للطفرات الموروثة التي تزيد من قدرة الفرد على المنافسة والبقاء على قيد الحياة والتكاثر"، تلك النظرية التي كان صداها في الفلسفة أقوى من صداها في العلوم الطبيعة؛ لأنها أسست للعقل المادي الرافض للغيب، والذي يعتبر الحواس فقط هي طريق المعرفة.

 

لكن حدود العقل كانت قضية مطروحة قديمًا وحديثًا؛ فالكثير من الآراء في تاريخ الفكر الإسلامي إما تنظر للعقل على أنه آلة، وإما تنظر على أن العقل غريزي، إضافة إلى اتجاه يعلي من شأن العقل ويراه جوهرًا وهذا الاتجاه كان رواده المعتزلة.

 

وعلى مستوى الفكر الإسلامي فإن الكثير من الآراء قديمًا وحديثًا رأت أن للعقل حدودًا، يجب ألا يتخطاها في تفكيره، فهو غير قادر على إدراك الغيب نظرًا لأن أدوات العقل التي يتوصل بها إلى المعرفة هي الحواس المختلفة، وهذه الحواس لا تدرك إلا المادة، أما الغيب فإنها لم تُخلق لإدراكه، وهنا يأتي الإيمان ليكمل هذا النقص.

 

والحقيقة أن تلك القضية محل توافق بين الرؤية الإسلامية وبين روافد مؤثرة في الفكر الفسلفي الغربي؛ ففي الرؤية الإسلامية كما كتب الشيخ "نديم الجسر" في كتابه "قصة الإيمان: بين الفلسفة والعلم والقرآن" نقلا عن المؤرخ الكبير "ابن خلدون": "لا تطمع في أن تزن أمور التوحيد والآخرة والنبوة وحقائق الصفات الإلهية بعقلك فإن ذلك طمع في محال.. ومثال ذلك مثال رجل رأى الميزان الذي يوزن به الذهب فطمع أن يزن به الجبال.. وهذا لا يدل على أن الميزان في أحكامه غير صادق ولكن العقل قد يقف عنده ولا يتعدى طوره حتى يكون له أن يحيط بالله وصفاته فإنه ذرة من ذرات الوجود الحاصل منه".

 

وقد أجمل سيد قطب قضية قصور العقل المادي، بقوله: "الاستسلام المطلق للاعتقاد في الخوارق والقوى المجهولة خطر، لأنه يقود إلى الخرافة.. ويحول الحياة إلى وهم كبير.. ولكن التنكر المطلق لهذا الاعتقاد ليس أقل خطرًا: لأنه يغلق منافذ المجهول كله، وينكر كل قوة غير منظورة لا لشيء إلا لأنها قد تكون أكبر من إدراكنا البشري في فترة من فترات حياتنا! وبذلك يصغر من هذا الوجود - مساحة وطاقة، وقيمة كذلك، ويحده بحدود "المعلوم" وهو إلى هذه اللحظة حين! يقاس إلى عظمة الكون- ضئيل.. جدًّا ضئيل!...".

 

ونجد اللفتة المهمة التي أشار إليها الدكتور عبد الوهاب المسيري، في سيرته الذاتية، عندما قال: "وقد وصفت العقل المادي بأنه عقل يشبه عقل أشعة إكس من ناحية، يمكنها أن تعطينا صورة لهيكل الإنسان العظمي لكنها لا يمكن أن تنقل لنا صورة الوجه الإنساني في أحزانه وأفراحه"، فحتى المشاعر الإنسانية العميقة قد لا يدركها العقل نفسه بعيدًا عن الحواس الأساسية، هنا يأتي الإحساس والشعور والإلهام والحدس، وكلها أمور لا يؤمن بها العقل المادي".

 

في الفكر الغربي

 

ونجد اثنين من كبار الفلاسفة الذين شكلوا العقل الغربي، يعترفان بأن للعقل حدودًا نظرًا لطبيعته، فنجد "إيمانويل كانط" (ت: 1804م) يعترف بأن للعقل حدودًا، وأن العقل لا يستطيع أن يمنحنا معرفة بالله، أو معرفة لما وراء الحواس، وأن الارتباك والتناقض يقع عندما يتجاوز العقل حدوده ويقول صراحة: "لا يمكن للبشر أن يمتلكوا معرفة بالعالم ككل. لا يمكنهم معرفة الكيانات التي تتجاوز هذا العالم، مثل الروح الخالدة أو الله. لا يمكننا تجربة هذه الأشياء من خلال حواسنا؛ لا يمكن للعقل أن يوفر مثل هذه المعرفة".

 

أما الفيلسوف وعالم الرياضيات "باسكال" الذي عاصر النهضة العلمية الأوروبية في القرن السابع عشر الميلادي، وساهم في الكثير من مجالات العلوم، وكما وصفه البعض بأنه "لا يمكنك أن تمشي 10 أقدام في القرن الحادي والعشرين دون أن تصطدم بشيء لم يؤثر عليه باسكال بطريقة أو بأخرى".. فنجد باسكال يؤكد أن للعقل حدودًا، فقد وجد أن هناك حدودًا صارمة لما يمكننا نحن البشر أن نعرفها، وبالنسبة له، لا يمكن للمنهج العلمي ولا العقل، بشكل عام، أن يعلم الأفراد معنى الحياة أو الطريقة الصحيحة للعيش، وقال: "هناك ما يكفي من النور لأولئك الذين لا يرغبون إلا في الرؤية، وهناك ما يكفي من الظلام لأولئك الذين لديهم مزاج معاكس".

 

ولعل المقولة التي تلخص ما سبق ما كتبه الأديب نجيب محفوظ: "من العقل أن نعرف حدود العقل".

الرابط المختصر :