Consultation Image

الإستشارة
  • المستشار : أ. فتحي عبد الستار
  • القسم : الابتلاءات والمصائب
  • التقييم :
  • عدد المشاهدات : eye 113
  • رقم الاستشارة : 2031
21/05/2025

أنا شاب أسعى منذ سنوات للحصول على وظيفة مرموقة بعد سنوات من الدراسة والاجتهاد. بذلت كل ما في وسعي، ودعوت الله كثيرًا، وأخذت بالأسباب كاملة، وكنت أضع أملًا كبيرًا في أن يتحقق هذا الأمر.

لكن للأسف، في كل مرة، أجد نفسي أفشل فشلًا ذريعًا، وتتبخر أحلامي أمام عيني. تقدمت لعدة وظائف بعد جهد كبير في البحث والتحضير، وبعد مقابلات مطولة كنت أظن أني سأقبل، تفاجأت بالرفض المتكرر.

أشعر بحزن عميق جدًا، يصل أحيانًا إلى درجة اليأس. ويفقدني هذا الفشل رغبتي في فعل أي شيء. والأسوأ من ذلك، تبدأ الأسئلة المؤلمة تتسلل إلى قلبي وعقلي: لماذا لم يكتب الله لي هذا الأمر؟ هل دعائي لم يكن مقبولًا؟ هل أنا مقصر في ديني؟ هل هناك حكمة خفية لا أراها، ولماذا هي مؤلمة إلى هذا الحد؟ هل الله لا يريد لي الخير؟

كيف أستطيع التعامل مع هذه المشاعر السلبية؟ أريد خطوات عملية يمكنني اتخاذها لتجاوز هذه الأزمة؟

مع الشكر.

الإجابة 21/05/2025

ولدي العزيز، مرحبًا بك، وشكرًا جزيلًا على ثقتك التي وضعتها فينا بمراسلتك لنا، وبث همومك وأوجاعك إلينا. وأسأل الله العلي القدير أن يفتح عليك أبواب رحمته وفضله، وأن يرزقك من حيث لا تحتسب، وأن يربط على قلبك بالصبر والسكينة، وأن يملأه نورًا ويقينًا، وأن يرزقك الرضا بما قسم لك، وأن يجعل كل عسر يمر بك تمهيدًا لليسر العظيم. اللهم آمين، وبعد...

 

وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خير لكم:

 

يا ولدي، اعلم –أولًا- أن الحياة الدنيا دار ابتلاء واختبار، وليست دار جزاء أو مستقر. وهذا الفشل الذي تراه أمام عينيك، وهذه الأحلام التي تتبخر، ما هي إلا جزء من هذا الابتلاء. إنها تجارب تصقل الروح، وتشحذ الهمة، وتعرفنا على حقيقة أنفسنا وحقيقة الدنيا.

 

إن القلب المؤمن، وإن تألم، فإنه لا ييأس، وإن حزن، فإنه لا يقنط. لأن لديه يقينًا راسخًا بأن الله على كل شيء قدير، وبأن وراء كل محنة منحة، ووراء كل عسر يسر. تذكر دائمًا قول الله تعالى: ﴿وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 216].

 

والآن تعالَ نتلمس الإجابة عن أسئلتك التي طرحتها:

 

1- لماذا لم يكتب الله لي هذا الأمر؟

 

إن الإجابة على هذا السؤال تكمن في جوهر الإيمان بالقضاء والقدر. الله -سبحانه وتعالى- عليم بكل شيء، حكيم في تدبيره، لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء. ما كتبه الله لك هو الخير المطلق، حتى لو لم تدرك حكمته في هذه اللحظة.

 

قد يكون في عدم حصولك على هذه الوظيفة خير لا تعلمه أنت. ربما لو حصلت عليها لكانت سببًا في شر مستطير لك، أو لفتحت عليك أبوابًا من الفتن. قال تعالى: ﴿وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَٰكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ﴾ [الشورى: 27]. فالله يعلم ما يصلح عباده وما يفسدهم، وما يقربهم منه وما يبعدهم عنه.

 

وقد يكون حرمانك من هذه الوظيفة أو غيرها، لحكمة عظيمة أرادها الله لك، ربما ليدفعك للبحث عن وظيفة أفضل، أو ليوجهك إلى مجال آخر لم يخطر ببالك، أو ليعلمك الصبر والتوكل، أو ليصقل شخصيتك ويقوي عزيمتك. إن كثيرًا من عظماء التاريخ لم يحققوا أحلامهم الأولى، ولكن الله فتح لهم أبوابًا أعظم لم يكونوا ليدخلوها لولا ما حرموا منه أولًا.

 

2- هل دعائي لم يكن مقبولًا؟

 

يا بني، إن دعاء المؤمن لا يضيع عند الله أبدًا. فالله أكرم وأجَلُّ من أن يرد يدين رُفعتا إليه بصدق وإخلاص. ولكن قبول الدعاء له صور متعددة: إما الإجابة الفورية، وإما تأخير الإجابة لحكمة يعلمها، ربما ليختبر صبرك، أو لأن الوقت لم يحن بعد، أو ليعدك لخير أكبر. وإما أن يصرف الله عنك بهذا الدعاء سوءًا عظيمًا كان سيصيبك، وأنت لا تدري. وإما يدخر الله دعاءك لك أجرًا عظيمًا وحسنات في الآخرة، وحسنات الآخرة أبقى وأدوم.

 

3- هل أنا مقصر في ديني؟

 

ليس كل ابتلاء هو نتيجة تقصير. فالابتلاء سنة الله في خلقه. والأنبياء -وهم أطهر الخلق وأقربهم إلى الله- ابتُلوا أشد الابتلاء. تذكر قصة أيوب -عليه السلام- وكيف ابتلاه الله في ماله وولده وجسده، ومع ذلك لم يكن مقصرًا في دينه، بل كان عبدًا شكورًا صبورًا.

 

وأحيانًا يكون الابتلاء لرفع الدرجات وتكفير السيئات. قال رسول الله ﷺ: «ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه» [متفق عليه].

 

ومع ذلك، فمراجعة النفس والتفكر في علاقتنا بالله أمر مطلوب دائمًا. فاسأل نفسك: هل هناك جوانب تحتاج إلى تقوية في عبادتك؟ هل هناك حقوق للناس لم تؤدها؟ هل هناك ذنوب خفية تحتاج إلى توبة؟

 

4- هل هناك حكمة خفية لا أراها؟ ولماذا هي مؤلمة؟

 

نعم يا بني، غالبًا ما تكون هناك حكمة خفية لا نراها إلا بعد حين، أو قد لا نراها أبدًا في هذه الدنيا. والألم الذي تشعر به هو جزء طبيعي من التجربة الإنسانية.

 

والألم يمكن أن يكون دافعًا قويًّا للتغيير والبحث عن طرق جديدة. لولا الألم، لربما استسلمنا للوضع الراهن ولم نسعَ للتطور.

 

وكلما زاد الألم زاد الأجر عند الله إن قابلناه بالصبر والرضا. قال رسول الله ﷺ: «إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قومًا ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط» [رواه الترمذي وابن ماجة]. فليكن ألمك بوابة للرضا لا للسخط.

 

كذلك يذكرنا الألم بحقيقة الدنيا، وأنها ليست دار نعيم كامل، وأن كل ما فيها فانٍ. هذا يوجهنا إلى التعلق بالباقي، وهو ما عند الله.

 

5- هل الله لا يريد لي الخير؟

 

حاشا لله! هذا السؤال يجب أن تقتلع جذوره من قلبك وعقلك. فالله أرحم بك من أمك وأبيك، وأعلم بما يصلحك من نفسك. كيف لا يريد لك الخير وهو الذي خلقك ورزقك وهداك؟

 

قال تعالى: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾ [الأعراف: 156]، والله يحب عباده المؤمنين، وييسر لهم الخير، ويدفع عنهم الشر. قد يحرمك من شيء تحبه لأنه يعلم أن فيه هلاكك أو شقاءك، وهذا عين الرحمة وعين الخير. تذكر أن الطبيب قد يمنع المريض من طعام يحبه لأن ذاك الطعام يؤذيه، فهو يحب الخير له، ولو لم يكن يحبه ويحرص عليه لتركه وما يهوى ويحب.

 

خطوات عملية لتجاوز هذه الأزمة:

 

يا بني، بعد أن عالجنا هذه الأسئلة الملحة، حان وقت وضع خريطة طريق عملية لتجاوز هذه الأزمة، وتحويل هذا الألم إلى طاقة إيجابية:

 

1- الرضا بالقضاء والقدر:

 

هذه هي الخطوة الأولى والأهم. تقبَّل ما حدث بقلب مؤمن راضٍ. قل: "قدر الله وما شاء فعل". استشعر أن كل ما يصيبك هو بقدر الله، وأن الله لا يقدر إلا الخير. هذا لا يعني الاستسلام، بل يعني الرضا بمراد الله، ثم السعي الجاد بعد ذلك. يقول النبي ﷺ: «عجبًا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن: إن أصابته سرَّاء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضرَّاء صبر فكان خيرًا له» [رواه مسلم].

 

2- تجديد النية وتصحيح المسار:

 

اجلس مع نفسك جلسة مصارحة: لماذا تسعى لهذه الوظيفة المرموقة؟ هل هي من أجل خدمة الدين، أو إعالة الأهل، أو بناء حياة كريمة بطريقة شرعية؟ إذا كانت النية صافية لله، فستجد العون والتوفيق. وإن كانت فيها شوائب، فجدد نيتك.

 

3- الثقة المطلقة بالله والتوكل عليه:

 

بعد بذل الأسباب كاملة، ضع ثقتك كلها في الله. اعلم أن الرزق بيد الله وحده، وأنك تسعى وتجتهد، والنتيجة بيده سبحانه. قال رسول الله ﷺ: «لو أنكم توكلون على الله حق توكله، لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصًا وتروح بطانًا» [رواه الترمذي وابن ماجة].

 

4- مواصلة الدعاء بقلب خاشع ويقين:

 

لا تيأس من الدعاء. غيِّر صيغة دعائك، وتفكَّر في دعوات الأنبياء والصالحين. ادعُ الله أن يرزقك الخير حيث كان، وأن يفتح عليك أبواب الرزق الحلال الطيب، وأن يرضيك بما قسم لك.

 

5- البحث عن بدائل وفرص جديدة:

 

لا تركز فقط على الوظيفة التي فشلت في الحصول عليها. قد يكون الله أراد لك شيئًا آخر أفضل. انظر إلى مجالات أخرى، أو فكر في تطوير مهاراتك، أو حتى في بدء مشروع خاص بك. كن مرنًا في تفكيرك.

 

6- تطوير الذات واكتساب مهارات جديدة:

 

استثمر هذه الفترة في تطوير نفسك. تعلَّم لغات جديدة، أو احصل على دورات تدريبية في مجالات تهمك، أو اقرأ كتبًا تزيد من معرفتك. هذا سيزيد من فرصك في المستقبل ويفتح لك آفاقًا جديدة.

 

7- الاستفادة من الأخطاء:

 

كل رفض هو فرصة للتعلم. حاول أن تسأل عن أسباب الرفض إن أمكن، وحاول أن تقوِّم نقاط ضعفك. ربما هناك مهارة معينة تحتاج إلى صقلها، أو طريقة عرضك لنفسك ومهاراتك تحتاج إلى تحسين.

 

8- الصبر والمصابرة:

 

إن طريق النجاح يحتاج إلى صبر ومصابرة. استمر في السعي والاجتهاد، فالله يرى سعيك وجهدك، ولن يضيعه. ﴿وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [هود: 115].

 

9- التزود بالعبادات والطاعات:

 

اجعل هذه الفترة فرصة لتقوية علاقتك بالله. أكثر من الصلاة والدعاء، وقراءة القرآن، وقيام الليل، والصدقة. كل هذه العبادات تفتح أبواب الرزق وتجلب البركة. قال رسول الله ﷺ: «من لزم الاستغفار جعل الله له من كل ضيق مخرجًا، ومن كل هم فرجًا، ورزقه من حيث لا يحتسب» [رواه أبو داود وابن ماجة].

 

10- استشارة ذوي الخبرة:

 

لا تخجل من طلب المساعدة والنصيحة من ذوي الخبرة والمعرفة. استشر من سبقك في هذا المجال، أو استعن بمن هم أهل للثقة. قد تجد عندهم نصيحة قيمة أو فرصة لم تخطر ببالك.

 

11- اليقين بأن الفرج قريب:

 

بعد الشدة يأتي الفرج، وبعد العسر يأتي اليسر. هذا وعد الله: ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾ [الشرح: 5 و6]. فالعسر مهما طال، سيتبعه يُسران.

 

وختامًا ولدي الحبيب، لا تسمح للأسئلة المؤلمة أن تتسلل إلى قلبك وعقلك إلا لتجد لها إجابات شافية في رحاب الإيمان. املأ قلبك بالثقة المطلقة في رحمة الله وحكمته. أسأل الله لك التوفيق والسداد، وراحة البال، وسعة الرزق، وأن يرزقك الوظيفة التي تقر عينك وتسعد قلبك، وأن يجعلها سببًا في صلاح دينك ودنياك. اللهم آمين.

الرابط المختصر :