الإستشارة - المستشار : أ. فتحي عبد الستار
- القسم : الابتلاءات والمصائب
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
44 - رقم الاستشارة : 2108
16/07/2025
أعيش بأحزان من ذكريات الماضي، عانيت ظلمًا وقهرًا شديدين، لا أستطيع النسيان وخاصة عند النوم.. هل لي فيها أجر وتكفير وزر؟
أسامح اليوم ثم أتذكر، أدعو عليهم بالعذاب ثم أسامح ثم أدعو، وهكذا تتقلب أيامي ولا تنتهي أحزاني.
أهلًا وسهلًا بك أيها الأخ الفاضل، وكم نشكرك على ثقتك الغالية بنا ومراسلتنا، ونسأل الله العظيم، رب العرش العظيم، أن يفرج همك، ويشرح صدرك، وينير بصيرتك، ويجعل كل ما أصابك رفعًا لدرجاتك وتكفيرًا لسيئاتك، وأن يمنحك السكينة والطمأنينة في قلبك، ويجعل بقية عمرك نورًا وسعادة، وبعد...
يا أخي الكريم، إن كلماتك تلامس القلب، وتصف ألمًا حقيقيًّا يعانيه كثيرون، فالظلم والقهر جراحات عميقة تترك آثارها في الروح والذاكرة؛ خصوصًا عندما تكون في لحظات السكون والراحة.
إن ما تمر به من تقلب بين الرغبة في المسامحة والشعور بالظلم، هو صراع إنساني نبيل، دليل على نقاء فطرتك ورغبتك في الخلاص من هذا العبء الثقيل.
اعلم أنك لست وحدك في هذا الطريق، وأن الله -سبحانه وتعالى- وهو أرحم الراحمين وأعدل العادلين، يرى ويسمع ويعلم كل ما في قلبك، ولن يضيع أجر صبرك ومعاناتك.
معاناة الماضي.. أجر عظيم وتكفير للذنوب
إن الأحزان التي تعيشها من ذكريات الماضي، والظلم والقهر الشديد الذي عانيته، وعدم قدرتك على النسيان؛ خصوصًا عند النوم، كل هذا يا أخي هو بلاء عظيم، ولكن في ميزان الله هو أجر عظيم وتكفير للذنوب. إن المؤمن يُبتلى ليرتقي في الدرجات ويُكفّر عنه من سيئاته، فكل ألم، كل هم، كل غم، كل شوكة يشاكها المؤمن، كان له بها أجر عند الله.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله بها من خطاياه» [رواه البخاري].
فتخيل يا أخي، أن هذه الذكريات المؤلمة التي تؤرقك، وهذه الأحزان التي تثقل كاهلك، هي في حقيقة الأمر مطهر لروحك، ورافعة لدرجاتك عند الله. إنها ليست مجرد معاناة عابرة، بل هي محطة من محطات الابتلاء التي يمر بها الصالحون، ليخرجوا منها أقوى إيمانًا وأكثر قربًا من الله. إن الله إذا أحب قومًا ابتلاهم، فإذا صبروا ورضوا، كان لهم الجزاء الأوفى.
تسأل: هل لك فيها أجر وتكفير وزر؟
نعم، وأي أجر! نعم يا أخي، لك فيها أجر عظيم وتكفير لوزر عظيم، بل هي من أعظم أبواب الأجر والثواب. إن صبرك على هذه الذكريات المؤلمة، وتحملك لآثار الظلم والقهر، واحتسابك ذلك عند الله، كل هذا يصب في ميزان حسناتك. إن الله سبحانه وتعالى لا يضيع أجر المحسنين، ومن أعظم الإحسان الصبر على البلاء والرضا بقضاء الله وقدره.
قال تعالى: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [الزمر: 10]. تأمل هذه الآية الكريمة، إنها تعني أن الأجر الذي يُمنح للصابرين لا يُحدُّ ولا يُحصى؛ لأنه أجر يليق بعظمة الله وكرمه. فكل لحظة ألم، كل دمعة تسقط، كل تنهيدة تخرج من صدرك بسبب ما مررت به، هي محسوبة عند الله، وهي ترفعك درجات وتكفر عنك خطايا قد لا تعلمها. إن الله -سبحانه وتعالى- يعلم ما في القلوب، ويعلم صدق ألمك، وسيجزيك خير الجزاء على صبرك وثباتك.
صراع المسامحة والدعاء.. نظرة إيمانية
إن صراعك بين المسامحة والدعاء على من ظلمك هو أمر طبيعي جدًّا، وهو يعكس الصراع بين النفس البشرية التي تتوق للعدل والانتقام، وبين الروح السامية التي تتطلع إلى العفو والصفح. لا تلم نفسك على هذه التقلبات، فهذا جزء من طبيعة الإنسان. ولكن دعنا نتأمل الأمر من منظور إيماني:
1- فضل العفو والصفح:
إن العفو والصفح عن الظالمين، مع القدرة على الانتقام أو الدعاء عليهم، هو من أعظم الأعمال التي يتقرب بها العبد إلى ربه. إنه دليل على قوة النفس وسمو الروح. قال تعالى: ﴿وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [النور: 22]. وقال أيضًا: ﴿فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ﴾ [الشورى: 40].
تأمل يا أخي، «فأجره على الله»، هذا وعد من الله بأن يتولى هو بنفسه جزاء من يعفو ويصفح، وهو جزاء لا يعلمه إلا الله، جزاء عظيم لا يخطر على قلب بشر. إن العفو يحرر قلبك أنت أولًا من قيود الكراهية والغضب، ويمنحك سلامًا داخليًّا لا يقدر بثمن. العفو ليس نسيانًا بالضرورة، بل هو قرار بعدم السماح لما حدث بأن يسيطر على حاضرك ومستقبلك.
2- العدل الإلهي:
حتى لو لم تستطع المسامحة في بعض الأحيان، أو شعرت بالرغبة في الدعاء عليهم، فاعلم أن الله هو «العدل» و«المنتقم» و«الحكيم». لن يضيع حق مظلوم، ولن يفلت ظالم من عقاب الله. قال تعالى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ﴾ [إبراهيم: 42]. وقال أيضًا: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ﴾ [الأنبياء: 47].
إن هذا اليقين بأن الله سيأخذ حقك كاملًا غير منقوص في يوم لا ريب فيه، يمكن أن يريح قلبك ويخفف من عبء الانتقام الذي تحمله. فوِّض أمرك لله، فهو خير وكيل.
3- توجيه الدعاء:
بدلًا من أن تستهلك طاقتك في الدعاء عليهم، وجِّه دعاءك لنفسك. ادعُ الله أن يرزقك السكينة والطمأنينة، وأن يزيل من قلبك كل غل وحقد، وأن يمنحك القوة لتجاوز هذه المحنة.
ادعُ الله أن يشفيك من جراحات الماضي، وأن يملأ قلبك بالرضا والسلام. إن الدعاء سلاح المؤمن، فاستخدمه لنفسك أولًا، ثم للآخرين بالخير.
خطوات نحو السكينة:
- الاستعانة بالله والتوكل عليه: اجعل ذكر الله وقراءة القرآن ملاذك. قال تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ [الرعد: 28].
- تغيير التركيز: حاول أن تركز على النعم التي أنعم الله بها عليك في حياتك، وعلى ما تبقى لك من عمر لتستثمره في طاعة الله وعمل الخير.
- الحديث مع من تثق به: لا تتردد في التحدث مع شخص موثوق به، سواء كان قريبًا، صديقًا، أو مختصًا نفسيًّا، فقد يساعدك ذلك على تفريغ ما في صدرك وإيجاد طرق للتعامل مع هذه المشاعر.
- العيش في الحاضر: الماضي قد مضى، والمستقبل بيد الله، عش لحظتك الحالية، وحاول أن تملأها بما ينفعك في دينك ودنياك.
وختامًا -أخي الحبيب- إن الله -سبحانه وتعالى- لا يبتلي إلا ليُطهر ويرفع. إن معاناتك هذه ليست عبثًا؛ بل هي جزء من حكمته البالغة، وهي فرصة لك لتنال أجرًا عظيمًا وتكفيرًا لذنوبك.
ثق بأن الله معك، وأنه لن يخذلك. استعن به، وتوكل عليه، وادعه بقلب صادق، وسترى كيف يفتح لك أبواب رحمته ويمنحك السكينة التي تبحث عنها.
اجعل هذه الأحزان دافعًا لك للتقرب أكثر إلى الله، واعلم أن كل يوم يمر عليك وأنت صابر محتسب، هو يوم يزداد فيه رصيدك من الحسنات. نسأل الله أن يرزقك قلبًا مطمئنًا، وروحًا راضية، وأن يجمعك بمن تحب في جنات النعيم، وتابعنا بأخبارك.