Consultation Image

الإستشارة
  • المستشار : أ. مصطفى عاشور
  • القسم : قضايا إنسانية
  • التقييم :
  • عدد المشاهدات : eye 40
  • رقم الاستشارة : 2154
21/07/2025

يلاحظ انتشار الفضائح والتي تطال الأعراض والذمم، بل إن بعض الأشخاص يفضح نفسه سعيًا وراء الشهرة، والسؤال هل ثقافة الستر ذات أهمية في أي مشروع إصلاحي مجتمعي وكيف نبني تلك الثقافة؟

الإجابة 21/07/2025

سؤالكم ذو أهمية خاصة لأنه يكشف عن أزمة عالمية يعاني منها غالبية البشر، أزمة يتشابك فيها تراجع الدين، مع ضعف التنشئة الاجتماعية، وتحضر فيها الأبعاد النفسية والاقتصادية والتكنولوجية لصياغة ملامحها.

 

غالبية المجتمعات البشرية تعاني من غياب واضح لثقافة الستر، على اختلاف درجات هذا الغياب بين المجتمعات، وفي المقابل هناك تمدد لثقافة الفضح التي تحولت إلى مجالٍ للتسلية والترفية، وتدر عوائد اقتصادية كبيرة للغاية، ولعل هذا ما جعل خصوصية الإنسان المعاصر منتهكة، وبات مجبرًا على متابعة فضائح أخلاقية تفرض نفسها على الذوق العام من خلال الإلحاح المتواصل وعبر الوسائط الإعلامية المختلفة.

 

ثقافة الستر وثقافة الفضائح إنما تنبعان من أفكار الإنسان ابتداءً ومن المنظومات الأخلاقية والاعتقادية التي تشجع إحدى الثقافتين وتغلبها على الأخرى، ومن ثم فنشر ثقافة الستر يفرض إصلاح الأفكار والجانب الضميري والأخلاقي في الإنسان.

 

تشير إحصاءات أخيرة إلى أن قيمة الإعلان الرقمي العالمي تزيد على (600) مليار دولار، وهذة السوق المزدهرة للغاية ترغب في أن تظل على قوتها ونموها، وأحد العوامل التي تستند عليها هو زيادة المستهلكين وإغراؤهم بالمتابعة والملاحقة للأخبار والتغطيات، فمن خلال المتابعة يمكن ترويج الإعلانات والحملات الدعائية وجني الأرباح الطائلة.

 

ومن هنا فإن تغطيات الفضائح وانتهاك خصوصيات الآخرين، والانتقال من التغطية إلى صناعة الفضيحة نفسها يساهم في زيادة المستهلكين في العالم الرقمي، ومن ثم زيادة المردودات الإعلانية، ومن ثم فإن القيم الرأسمالية أو قيم السوق الجشعة المنفلتة من أي ضوابط أخلاقية تقف وراء إضعاف ثقافة الستر، وتغليب ثقافة الفضح والفضائح.

 

تشير دراسة صادرة عن مركز بيو الأمريكي لأبحاث الدين إلى أنه خلال الفترة من 2008 حتى 2019 انخفض عدد موظفي غرف الأخبار في الصحف إلى النصف، وذلك لانصراف المستخدمين إلى المنصات الرقمية، ودلالة ذلك هو غياب الكثير من الضوابط في إنتاج الأخبار، وهي حالة وصفها بعض خبراء الإعلام "بتصحر الأخبار"، أي بات الكثير من الأخبار لا تخضع للمهنية والضوابط والمساءلة التي كانت في السابق، وكانت النتيجة غياب المصداقية وكثافة الإشاعات والميل إلى نشر أخبار الفضائح بكثافة عالية.

 

وعلى المستوى النفسي تشير الكثير من الدراسات إلى أن الكثير من البشر يميلون إلى متابعة أخبار الفضائح بدوافع مختلفة منها: التسلية والترفيه، لكن الأخطر هو أن أخبار الفضائح تمنحهم إحساسًا بالتفوق الأخلاقي، وتشبع عندهم مشاعر الفضول والتلصص وتمنحهم مادة للحديث عن الآخرين والانتقام منهم كأشخاص أو حتى كنماذج، لذلك نجد فضائح المشاهير والأغنياء أكثر تداولاً من غيرهم.

 

وفي دراسة طريفة أُجريت عام 2019 على (467) شخصًا، خلصت إلى أن الفرد يقضي (52) دقيقة يوميًّا في النميمة، وهتك أستار الآخرين، ظنًّا أن هتك تلك الأستار يقوي الترابط الاجتماعي والتواصل الإنساني دون إدراك لعاقبة تغييب ثقافة الستر واحترام غيبة الآخرين وخصوصياتهم.

 

أما رؤية الفكر الإسلامي فإنها ترفض الفضح والفضائح، وتدعو للستر، ومن يتابع النصوص القرآنية والأحاديث النبوية سيلحظ بجلاء أن هناك وعيدًا شديدًا للذين ينتهكون أستار الناس ووعيدًا أشد للذين ينتهكون أستار أنفسهم ويعلنون للناس ما اقترفوه من ذنوب وكبائر وآثام، ولعل الوعيد يزيد لأولئك الذين يوثقون ارتكابهم الفواحش أو تعاطيهم للمسكرات والمخدرات وينشرونها على مواقع التواصل الاجتماعي للتفاخر والتباهي، ويرى الإسلام أن تلك الثقافة الفضائحية تهدم المجتمع وأنها عقبة في أي مشروع إصلاحي.

 

والمؤكد أن تغييب ثقافة الستر ونشر الفضائح يحفز الكثير على تخطي الحدود وارتكاب المحرمات؛ فالفضائح تخلخل الحواجز النفسية للخطايا والرذائل وتغري بارتكابها أو حتى تقبلها والتعايش معها.

 

يقول الدكتور محمد عبد الله دراز في كتابه "نظرات في الإسلام": "كل إنسان له في الإسلام قدسية الإنسان، إنه في حمى محمي وحرم محرم. ولا يزال كذلك حتى يهتك هو حرمة نفسه. وينتزع بيده هذا الستر المضروب عليه، بارتكاب جريمة ترفع عنه جانبًا من تلك الحصانة... بهذه الكرامة يحمي الإسلام أعداءه، كما يحمي أبناءه وأولياءه.. وهذه الكرامة التي كرم الله بها الإنسانية في كل فرد من أفرادها، هي الأساس الذي تقوم عليه العلاقات بين بني آدم".

الرابط المختصر :