الإستشارة - المستشار : أ. مصطفى عاشور
- القسم : قضايا إنسانية
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
22 - رقم الاستشارة : 2113
17/07/2025
ما هي العواقب التاريخية لعدم التسامح في المجتمعات العربية بشكل عام و الإسلامية ؟
في البداية أشكركم على طرح هذا السؤال المهم الذي يكشف عن أزمة عميقة لا تعاني منها المجتمعات العربية والإسلامية فحسب، ولكن تعاني منها غالبية المجتمعات الإنسانية التي تعاني من غياب التسامح، أو التي يقتصر تسامحها على طائفة أو مذهب أو دين دون أن يكون مسلكًا أخلاقيًّا عامًّا.
سؤالكم أمسك بالخيط الذي تدور حوله الكثير من الصراعات والأزمات والاحتقانات في منطقتنا العربية والإسلامية، والتي تبدت بوضوح خلال الأزمات الأخيرة، من النظر للمخالف والمختلف على أرضية التخوين والعمالة للخارج، والتعامل معه كعدو يجب القضاء عليه والتخلص منه، وهو ما أوجد جروحًا غائرة في العلاقات الاجتماعية والدينية والمذهبية وذاكرة من الكراهية تتعرض للتوظيف السياسي الخارجي.
في البداية يجب التأكيد أن التسامح مفهوم وقيمة مركبة أخلاقيًّا وسياسيًّا واجتماعيًّا وإنسانيًّا، ولا يمكن إدراك أهميتها إلا من خلال إدراك نقيضها وهو التعصب والكراهية والعنف، كذلك فإن التسامح كقيمة لا يتحقق إلا في ظلال الحرية، فالمجتمعات الاستبدادية القمعية تهدر الحرية والإنسانية ولا تعترف إلا بالرأي الواحد وتقمع كل مخالف ومختلف.
والتسامح كقيمة أخلاقية وممارسة مجتمعية وسياسية أنتجه على المستوى التاريخي مساران أساسيان:
أولهما: المسار الديني الأخلاقي؛ فالتسامح تأسس على اعتراف ديني بحق الآخر في الاختلاف والوجود، وخير شاهد على هذا المسار هو التجربة التاريخية والحضارية الإسلامية، والتي لم تتسامح فقط مع الآخر المختلف عنها دينيًّا، ولكنها أوجدت له في شرائعها أحكامًا متعددة، ووجود تلك التشريعات لا يعني إلا الاعتراف بوجود الآخر المختلف وإيجاد بنية قانونية تشريعية تنظم وجوده وحقوقه وترعاها.
هذه البنية التشريعية الفقهية أوجدت مساحات مشتركة من التواصل الإنساني والإدماج في المسار الحضاري، وفتح المجال الاقتصادي والسياسي والحضاري للتفاعل، وعلى سبيل المثال فبعد سنوات قليلة من فتح الأندلس كان عدد الزيجات بين المسلمين وبين المسيحيات الإسبانيات يزيد على الثلاثين ألف حالة زواج، وهو ما خلق مساحات مشتركة من التعايش المشترك وسمح بوجود أجيال جديدة تنتمي للدين الجديد وهو الإسلام، والأرض الجديدة وهي الأندلس، وكان هذا الجيل الذي سُمي بـ"المولدين" إحدى الرئات الكبرى التي تنفس من خلالها التسامح.
هذا المسار يستند إلى نصوص تأسيسية في القرآن والسنة واجتهادات لفقهاء وممارسات للمجتمعات المسلمة على امتداد المكان والزمان طيلة التجربة التاريخية الإسلامية، ونشير هنا إلى وصية عظيمة يمكن النظر إليها كوثيقة تأسس عليها التسامح، وهي وصية الإمام علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- لـ"مالك بن الأشتر" حين عيّنه على ولاية مصر، حيث قال له: "وأشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبّة لهم، واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعًا ضاريًا تغتنم أكلهم، فإنّهم صنفان: إمّا أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق، يفرط منهم الزلل، وتعرض لهم العلل، ويؤتى على أيديهم في العمد والخطأ، فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب وترضى أن يعطيك الله من عفوه وصفحه".
المسار الثاني: وهو مسار فرضته الحاجة، في المجتمعات الغربية التي طحنتها الحروب الدينية قرابة قرن ونصف، وأدت إلى تناقص عدد سكان القارة، واستحكام العداء بين مكوناتها الدينية والاجتماعية.
ففي تلك الفترة طالب أغلب فلاسفة عصر التنوير بضرورة التسامح للخروج من حالة الكراهية الدينية التي عصفت بأوروبا، وكان من أوائل تجليات التحول ظهور "قانون التسامح" سنة 1689م في بريطانيا، مانحًا حرية العبادة العلنية للبروتستانت غير المنتمين لكنيسة إنجلترا.
ففي ذلك العصر تحدث الكثير من المفكرين عن الحاجة للتسامح مثل "فولتير" و"روسو" و"كانط"، ورأى هؤلاء أن الحروب الدينية التي اشتعلت في القرن السادس عشر الميلادي وامتد لهيبها إلى منتصف القرن السابع عشر لا مخرج منها إلا بالتسامح وأن يتحول هذا التسامح إلى ما يشبه المبدأ الأخلاقي، ومن ثم جاء التسامح كردة فعل فلسفية وسياسية واجتماعية على التعصب والكراهية والعنف الذي اجتاح القارة، وكان أهم مكوناته هو الاعتراف بوجود الآخر، يقول فولتير عن ذلك التسامح في أحد كتبه: إن التسامح "هو خاصّيّة الإنسانيّة، فنحن كلّنا معجونون من ضعف وأخطاء، لنتسامح مع بعضنا عن تفاهاتنا، هذا هو القانون الأوّل للطبيعة".
وأخيرًا، فإن من المسببات الكبرى لغياب التسامح في المجتمعات، هو اعتقاد البعض باحتكار الحقيقة المطلقة وأن الآخر ما هو إلا ضال، هذا الظن يقود حتمًا إلى شيطنة الآخر، وإضفاء كل شر عليه ليصبح العنف هو السبيل الأنسب لإزاحته من الطريق، وهذا الاعتقاد بامتلاك الحقيقة هو المادة الخام للتعصب والعنف.