الإستشارة - المستشار : أ. فتحي عبد الستار
- القسم : العائلة الكبيرة
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
96 - رقم الاستشارة : 2854
02/10/2025
أنا أسعى قد ما أقدر أكون واصلة لرحمي زي ما أمرنا الشرع، لكني أعاني من مشكلة متعبة ومؤرقة في محيطي العائلي. للأسف، أغلب الجلسات واللقاءات تكون مليانة بالغيبة والنميمة، والأدهى من كذا إن فيه ناس منهم يتفنّنون في السخرية المتعمدة، والتجريح، والإحراج قدّام الكل، وبعضهم يتعمّدون يثيرون المشاكل والخلافات بدون سبب. أحاول أتجاهل وأغض الطرف، وأحيانًا أنصح بالتي هي أحسن أو أحاول أغيّر الموضوع، بس ما فيه فايدة، بل أغلب الأحيان أرجع لبيتي وأنا نفسيتي تعبانة ومضغوطة. قرّرت إني أقلّل الزيارات واللقاءات بشكل كبير، وأخلّيها على الضرورة القصوى بس، عشان أحمي نفسي من الأذى. لكن هذا القرار ما مرّ بسهولة، وبعض الأقارب اتهموني إني تغلّيت عليهم، وإني قاطعة رحم، ومرتكبة ذنب الهجر المذموم شرعًا. فهل الابتعاد وتقليل الزيارات عن التجمعات اللي فيها هالنوع من الأذى يُعتبر هجر مذموم وقطيعة رحم؟ وكيف أتعامل مع اتهاماتهم لي بالقطيعة، وهل لازم أبرَّر لهم سبب ابتعادي هذا؟
مرحبًا بك أيتها السائلة الكريمة، وشكرًا جزيلًا على ثقتك بنا، وأدعو الله أن يُثبتك على حرصك على طاعة الله وصلة رحمك، وأن يعينك على كل خير، ويخفف عنك هذا العناء، ويُذهب عنك الهم والضيق، ويسدد خطاك لما فيه رضاه، وبعد...
فإنَّ صلة الأرحام من أعظم القربات التي أمر بها الإسلام، وربطها بالإيمان به عز وجل، فقد قال تعالى: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَىٰ﴾ [النساء: 36]. وقد حذّرنا النبي ﷺ من قطعها فقال: «لا يدخلُ الجنةَ قاطعُ رحمٍ» [رواه مسلم].
بين صلة الرحم وحفظ النفس
إنّ مشكلتك هي صراع بين واجب عظيم (صلة الرحم) وواجب آخر لا يقل أهمية (حفظ النفس من الأذى المعنوي والنفسي)، وحرصك على الموازنة بينهما يدل على وعي ناضج والتزام شرعي وإيماني.
واعلمي أختي الكريمة أن الإسلام دين اليسر ورفع الحرج، ودين يقدِّر قيمة النفس الإنسانية وسلامتها.
هل الابتعاد عن التجمعات المؤذية يُعد قطيعة للرحم؟
إن صلة الرحم تعني بذل الإحسان والبر، والسؤال، وتفقد الحال، والزيارة التي لا يترتب عليها ضرر نفسي أو ديني أكبر.
ولقد شرع الله لنا الابتعاد عن مواطن السوء التي تؤدي إلى الوقوع في المعاصي، كالغيبة والنميمة والسخرية، أو تُلحق الأذى بالنفس. قال تعالى: ﴿وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ﴾ [القصص: 55]. فحفظ النفس وحماية الدين مقدَّمان، والابتعاد عن مجالس الغيبة هو حفاظ على الإيمان وراحة النفس.
فالوصل يكون بالمعروف، وصلة الرحم واجبة بالقدر الذي لا يترتب عليه ضرر أكبر. وقد قال العلماء إن الصلة المطلوبة هي الإحسان إلى الأقارب على حسب حال الواصل والموصول، فتارة تكون بالمال، وتارة بالخدمة، وتارة بالزيارة، وتارة بالسلام، وغير ذلك. فإذا كان الذهاب يجرُّك إلى الأذى أو سماع المنكر، فالإقلال والابتعاد مع بقاء التواصل الهادئ بوسائل أخرى هو تحقيق للوصل مع درء المفسدة.
أما الهجر المذموم شرعًا فهو القطع التام الذي يتبعه هجر المودة، وعدم السؤال، والكف عن الإحسان، ومقاطعة الزيارة مطلقًا، وهو ما لم تقصديه أنت.
إن قرارك تقليل الزيارات هو قرار حكيم وضروري لحماية سلامتك النفسية. فالبيئة التي تتفشى فيها السخرية والتجريح هي بيئة سامة ومؤذية. وكونك تعودين إلى بيتك بنفسية متعبة دليل على أن هذه اللقاءات تُفقدك الطاقة وتُجهدك نفسيًّا، والشرع يأمر برفع الضرر. لا يطالبك الشرع بأن تضحي براحتك وسلامك النفسي مقابل واجب الصلة الذي يؤول في هذه الحالة إلى ضرر عليك.
الخلاصة: إنك تُعتبرين واصلة لرحمك، ما دُمتِ لم تقطعي الإحسان والسؤال والدعاء والتواصل بالقدر الممكن والمريح لك.
كيف تتعاملين مع اتهاماتهم لك بالقطيعة؟
أختي الكريمة، استحضري النية واطلبي الأجر من الله، واصبري على الأذى. وتذكري قول النبي ﷺ: «المؤمنُ الذي يُخالطُ الناسَ ويصبرُ على أذاهُم، خيرٌ من المؤمنِ الذي لا يُخالطُ الناسَ ولا يصبرُ على أذاهم» [رواه الترمذي]. وإذا كان الأذى شديدًا لدرجة تضر بدينك ونفسيتك، فإن الابتعاد المُنظَّم هو شكل من أشكال الصبر، والصبر على التهم الباطلة هو جهاد.
فاستعيني بالله، واعلمي أن اتهامهم لك بالقطيعة لا يُغيِّر من حقيقة وصلك في ميزان الله. فاستمدي راحة البال من يقينك بأنك تراعين الشرع وتحفظين نفسك.
وإن اضطررت للرد، فاستحضري قول الله تعالى: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا﴾ [الفرقان: 63]. فليكن ردك هادئًا مقتضبًا دون انفعال.
ولا يجب عليك تبرير سبب ابتعادك تفصيلًا، وخصوصًا أنك حاولت النصح ولم يُجدِ ذلك نفعًا. إن التبرير قد يفتح بابًا للجدال والخلافات والخصومة التي تحاولين تجنُّبها.
يمكنك الاكتفاء بردود قصيرة وهادئة مثل: «أنا حريصة على وصلكم، ولكن أحيانًا الظروف والارتباطات تسمح لي فقط بالزيارات السريعة».
الأهم هو الثبات على قرار تقليل الزيارات، وعدم التراجع عنه بسبب الضغط الاجتماعي أو الاتهامات، مع المحافظة على حسن الخلق عند التواصل القليل.
وأخيرًا، تذكري أن صلة الرحم عبادة، والعبادة يجب أن تكون سليمةً من المنغصات قدر الإمكان. فاستمري في وصلهم بما يرفع عنك الأذى، بالهاتف والرسائل، فذلك يحقق الوصل ويقيك من جو التجمعات المُؤذي.
وإذا ذهبتِ للضرورة، فاجعلي زيارتك قصيرة ومحددة بزمن، وتجنبي الجلوس في الأماكن أو الأوقات التي يكثر فيها اللغو.
وعليك بالدعاء لهم بالهداية وصلاح الحال، لعلَّ الله يُصلح شأنهم فتتمكني من وصلهم دون عناء.
وفقك الله لِما فيه خير دينك ودُنياك، وسدَّد خُطاك، وجعل سعيك لرضاه في ميزان حسناتك.
روابط ذات صلة:
كيف أوازن بين صلة الرحم وسلامتي النفسية مع المسيئين؟