Consultation Image

الإستشارة
  • المستشار : د. أميمة السيد
  • القسم : الشباب
  • التقييم :
  • عدد المشاهدات : eye 46
  • رقم الاستشارة : 2079
26/05/2025

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته دكتورتنا الكريمة،

أنا حفيد لإحدى الجدات الطيبات اللاتي أغدقن علينا، نحن الأبناء والأحفاد، بعطاء لا يُعد ولا يُحصى. منذ صغرنا وجدنا يدها مبسوطة، وقلبها أوسع من البحر، ما طلبنا يومًا شيئًا إلا وجدناه، حتى دون أن نطلب أحيانًا. لم تكن تبخل بمالها، ولا بوقتها، ولا حتى براحتها، وقد أحسنا الظن بأن هذا هو "الحب الحقيقي".

لكنني الآن – وقد كبرت وأصبحت أكثر وعيًا – أُصاب بحيرة ومرارة حين أرى كيف تحوّل ذلك الكرم الجميل إلى ما يشبه "حقًا مكتسبًا"، بل ربما "غنيمة"! صرنا نتعامل مع الجدة كأنها بنك متنقل، لا نذكرها إلا عند الحاجة، وإذا ترددت أو عجزت عن العطاء بسبب مرضها أو كبر سنها، تنقلب الوجوه، وتُسمع كلمات لا تليق، بل وتُفتعل المشكلات حول "من سيأخذ أكثر"!

أنا لا أنكر فضلها، ولا أستطيع أن أصف كم أحبها، لكنني صرت أشعر أن حبّنا لها أصبح مشروطًا... بمالها! وأخشى أنني – دون قصد – كنت واحدًا ممن ساهموا في هذا النكران غير المقصود، نتيجة التربية التي لم تكن حازمة أو موجهة في هذا الباب.

سؤالي يا دكتورة:

هل يمكن أن يكون الكرم المفرط – حين يخلو من التوجيه – سببًا في تمرد الأبناء والأحفاد؟

وهل أخطأت جدتي حين أعطت ولم تُربّ؟

كيف نُعلم أبناءنا وأحفادنا من الآن أن "الكبار ليسوا بنوكًا متنقلة"، وأن البرّ لا يُقاس بما يُؤخذ؟

وهل من منهج تربوي يساعد في الجمع بين الحب والعطاء، وبين الحزم والاحترام؟

أرجو التوجيه، وجزاكم الله عنّا خير الجزاء.

الإجابة 26/05/2025

ابني الكريم،

 

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته،

 

شكرًا لصدقك، ورُقي إحساسك، وحرصك على الفهم لا الاتهام. إن ما طرحته ليس مجرد حالة شخصية، بل هو مرآة لأزمة تربوية أسرية بدأت تتفشى في مجتمعاتنا، حيث يتوارث الأبناء والأحفاد نعمًا مادية لا يُصاحبها بناء قيمي أو توجيه أخلاقي، فتُصبح النعمة نقمة، ويُساء استخدام العطاء حين ينفصل عن التوجيه.

 

أولًا: قولاً واحدًا: نعم، الكرم المنطلق بلا حدود تربوية ولا وعي قيمي قد يُفضي –للأسف– إلى التمرد أو الطمع أو الجحود. ذلك لأن التربية لا تُبنى فقط بالعطاء، بل بنمط تربوي متزن يجمع بين المحبة والضبط، بين الحنو والحزم، وهو ما يُعرف تربويًّا بمفهوم "Balanced Parenting Style".

 

لقد أعطت الجدة بسخاء، لكن يُحتمل أنها لم تُدربكم على قواعد الأخذ والامتنان، ولم تغرس فيكم الوعي بأن العطاء ليس استحقاقًا دائمًا، بل نعمة تتطلب تقديرًا وتهذيبًا للنفس.

 

ثانيًا: العطاء حين ينفصل عن التوجيه، يصبح مشوهًا تربويًّا، وهو ما يُسميه المتخصصون "Enabling without Empowerment"، أي: إتاحة الموارد دون تمكين نفسي أو أخلاقي. وهذا النوع من العطاء يُضعف روح المسؤولية، ويُربي في الطفل الشعور الزائف بأن من حوله مُلزمين بتلبية حاجاته دومًا، بلا مقابل أو شكر أو مراعاة.

 

ثالثًا: في حديث النبي ﷺ: "اليد العليا خيرٌ من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول"، إشارة إلى مبدأ عميق في التربية، وهو أن العطاء يجب ألا يُجرد الإنسان من كرامته أو مسؤوليته، بل أن يكون وسيلة لبناء كيان نفسي ناضج وقادر على العطاء لاحقًا.

 

ولو تأملنا هذا الحديث لوجدنا أنه يدعو إلى ترسيخ مبدأ الاكتفاء والاعتماد على الذات، لا التعلق الدائم بعطاء الآخرين.

 

رابعًا: التربية السليمة تتطلب ما نُسميه "Emotional Firmness"، أي الحزم العاطفي، وهو ليس قسوة، بل هو قدرة الكبار على قول "لا" بحب، ووضع الحدود بوعي، وإرشاد الأحفاد إلى أن الحب لا يُقاس بالمال، بل بالرعاية، والاحترام، والوقت، والذكر الحسن.

 

خامسًا: عليك الآن، وقد نضج وعيك، أن تبدأ من ذاتك..

 

كن حفيدًا راشدًا يُصلح ما فسد من أثر التربية العاطفية غير المتوازنة. اجتمع بأقاربك، أو بادر بشكل فردي، وابدأ معهم حوارًا لطيفًا تُذكرهم فيه بفضل الجدة، وتدعوهم إلى إعادة ترتيب العلاقة على أساس الاحترام لا الاستغلال. فكل تغيير جمعي يبدأ بفرد مبادر يحمل بذور الصحوة.

 

* وهمسة أخيرة لابني العاقل:

 

قل لجدتك بامتنان– ما دمت حييت – "شكرًا"، وقلها كثيرًا. وادعُ الله أن يغفر لها إن كانت قد أحسنت النية وأخطأت في الوسيلة، واغرس في أبنائك وأحفادك يومًا أن "الناس لا يُحبون لأموالهم، بل لقلوبهم، وأخلاقهم، وأثرهم الطيب".

 

كن أنت الكريم الجديد في عائلتك، ولكن المُربّي بعقله، والبارّ بقلبه. وفقك الله يا بُني، وجعلك من الصالحين المصلحين.

الرابط المختصر :