الإستشارة - المستشار : أ. فتحي عبد الستار
- القسم : روح العبادات
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
87 - رقم الاستشارة : 2679
16/09/2025
رغم أنني أحقق نجاحًا في عملي الدنيوي، ويشيد الناس بإنجازاتي، ومستقر اجتماعيًّا وماديًّا، مع زوجة وأولاد، إلا أنني لا أشعر بالسعادة، بل أشعر داخليًا بفراغ شديد، وكأن كل ما أفعله بلا روح ولا قيمة له. مع أني أيضا ملتزم بالصلاة والعبادات.
لماذا أشعر بهذا الفراغ والعدمية؟ وكيف أخرج من هذا الشعور؟
مرحبًا بك أخي الكريم، وأشكرك على ثقتك بنا، وأسأل الله العظيم أن يفرِّج همك، وأن يملأ قلبك سكينة وطمأنينة وسعادة، وأن يجعل لك من كل ضيق مخرجًا، وبعد...
فحالك هذا أيها الأخ الفاضل هو حال كثيرين في هذا العصر، عصر الماديات والنجاحات الظاهرية. فكم من ناجح في عمله، غني بماله، محاط بأهله وأحبابه؛ لكنه في داخله يشعر بهذا الفراغ الرهيب، وهذا النقص الذي لا يملؤه مال ولا جاه ولا أناس.
إنها حالة إنسانية عامة لمن يفتقد البوصلة الحقيقية للسعادة. حالة تشبه الظمآن الذي يركض وراء السراب، يظنه ماءً، فإذا وصل إليه لم يجد شيئًا. لقد ظن كثيرون أن السعادة في تحقيق النجاحات المادية، وجمع الأموال، وبناء القصور، ولكنهم وجدوا أنفسهم في نهاية المطاف أمام فراغ عظيم.
لماذا تشعر بهذا الفراغ؟
إن إحساسك بالفراغ والعدمية، على الرغم من نجاحاتك الظاهرية، يرجع لعدة أسباب، أهمها:
- انفصال الروح عن الجسد: إن الإنسان ليس مجرد جسدٍ يأكل ويشرب ويعمل وينجح، بل هو جسد وروح. وعندما نهتم بالجسد فقط ونتجاهل الروح، فإن الروح تمرض وتشعر بالظمأ، تمامًا كالنبتة التي تُسقى بالماء، ولكنها تُحرم من ضوء الشمس، فتبدأ بالذبول.
إننا في هذا العصر، نُعلِّم أبناءنا كيف ينجحون في دراستهم، وكيف يكتسبون مهارات العمل، ولكننا قد ننسى أن نُغذِّي أرواحهم.
إن الفراغ الذي تشعر به هو صرخة روحك التي تريد أن تعود إلى مصدرها، إلى خالقها. إنها تُخبرك بأنها بحاجةٍ ماسَّة إلى الغذاء الروحي.
تأمل معي قوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ﴾ [طه: 124]. والمعيشة الضنك هنا لا تعني بالضرورة الفقر المادي؛ بل تعني ضيق الصدر وقلق النفس وفراغ الروح، حتى لو كان الإنسان يعيش في قصر منيف.
النجاح الدنيوي ليس هو الهدف الأسمى: لقد خُلقنا في هذه الدنيا لعبادة الله، وأن نعمل لآخرتنا قبل دنيانا. قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: 56]. فالنجاح الدنيوي هو وسيلة لا غاية.
فقد يكون نجاحك الدنيوي -على أهميته- قد طغى على شعورك بالهدف الأسمى من وجودك، وهو عبادة الله.
لقد ورد عن النبي ﷺ قوله: «لَيْسَ الغِنَى عَنْ كَثْرَةِ العَرَضِ، وَلَكِنَّ الغِنَى غِنَى النَّفْسِ» [رواه البخاري]. فالغنى الحقيقي هو غنى القلب والروح، وليس غنى المال والممتلكات.
فقدان الشعور بالبركة: قد يكون النجاح الذي نحققه هو مجرد أرقام وإحصائيات، ولكن لا قيمة له من دون البركة.
إن البركة هي جندي خفي من جنود الله، فكم من قليلٍ بارك الله فيه فكفى وأغنى، وكم من كثيرٍ نُزعت منه البركة فلم يُغنِ عن صاحبه شيئًا.
قد تكون صلاتك وعباداتك مجرد حركات وكلمات، ولكنها بلا روح، بلا خشوع، بلا حضور قلب.
كيف تخرج من هذا الشعور؟
لا تقلق أخي الفاضل، فما دمتَ قد أدركت المشكلة، فهذه هي الخطوة الأولى نحو الحل. وإليك بعض النصائح العملية التي قد تساعدك بإذن الله على تجاوز هذه المرحلة:
- إصلاح العلاقة مع الله: اجعل علاقتك بالله –تعالى- هي بوصلة حياتك. أحسن صلاتك، واجعلها لقاءً مع الله، وليس مجرد فرضٍ تؤديه. اخشع فيها، وحاول أن تستشعر أنك تقف بين يدي رب العالمين. حاول أن تفهم معاني الآيات التي تقرؤها، وتأمل في عظمة الله، وتذكر أنك في حضرة ملك الملوك.
خصص وقتًا لقراءة القرآن، وتدبُّر آياته، وطلب العلم الشرعي.
أكثِرْ من الذكر، ولا تجعل لسانك يفتر عنه في كل أوقاتك. قال تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ [الرعد: 28].
لا تجعل مالك محبوسًا عليك؛ بل أنفق منه في سبيل الله، وتصدق على المحتاجين، واكفل الأيتام. ففي الصدقة بركة عظيمة.
- إعادة ترتيب الأولويات: اجعل عملك الدنيوي وسيلة لآخرتك، وليس غاية بحد ذاته. واجعل النية في عملك إرضاء الله، ونفع المسلمين، وكسب الرزق الحلال لك ولأهلك.
- الالتفات إلى الآخرين: إن من أكبر أسباب السعادة هو نفع الآخرين، فأنفق من وقتك وجهدك، فقد تكون أسعد لحظات حياتك هي تلك التي تقدم فيها مساعدة لأحد من الناس، أو تُدخل فيها السرور على قلب يتيم، أو تُطعم فيها مسكينًا.
- الصحبة الصالحة: صاحب الأخيار، واجلس مع أهل العلم والصلاح، واجعل لك أصدقاء يعينونك على الطاعة، ويُذكِّرونك بالله.
تغيير نظرتك للحياة: تذكر أن الحياة الدنيا قصيرة وزائلة، فلا ترتبط بالأشياء المادية، واعلم أن السعادة لا تأتي من امتلاك المزيد؛ بل من الرضا بما قسمه الله لك.
ابحث عن القناعة، فهي -فعلًا- كنزٌ لا يفنى. لقد قال النبي ﷺ: «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ، وَرُزِقَ كَفَافًا، وَقَنَّعَهُ اللَّهُ بِمَا آتَاهُ» [رواه مسلم].
تذكَّر سليمان -عليه السلام- الذي أوتي ملكًا لم يؤتَه أحد من بعده، ومع ذلك كان يطلب من ربه أن يكون من الشاكرين؛ ويملأ حياته بالقيام بما فرضه الله عليه من موجبات الملك، من رعاية المخلوقات كلهم، من بشر وطير وحيوان، وينشغل بالدعوة إلى الله؛ لأنه يعلم أن الملك وحده لا يُدخل الجنة ولا يُحقق السعادة.
وختامًا أخي الفاضل، إن السعادة الحقيقية ليست في النجاح الظاهري، ولا في كثرة المال والبنون؛ بل هي في شعورك بالقرب من الله، وفي رضا قلبك بما قسمه الله لك، وفي بركة يضعها الله في عمرك ومالك وعملك.
لا تفقد الأمل، فالله -سبحانه وتعالى- قريب مجيب. أكثر من الدعاء، وتوكل عليه، واعلم أن هذا الشعور ما هو إلا رسالة من ربك إليك لتعيد ترتيب أولوياتك، وتصحح بوصلة حياتك. فابدأ من اليوم، واجعل الله غايتك، وسترى كيف يتبدد هذا الفراغ، وتستبدل مكانه السكينة والطمأنينة والسعادة الحقيقية.
وفقك الله لكل خير، وبارك لك في حياتك، وملأ قلبك سرورًا، وتابعنا بأخبارك.
روابط ذات صلة: