الإستشارة - المستشار : د. أميمة السيد
- القسم : الشباب
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
71 - رقم الاستشارة : 3027
20/10/2025
أنا أم لثلاثة أبناء، وبيتنا كان ولله الحمد ميسور الحال لسنوات طويلة، وزوجي كان يعمل في وظيفة محترمة، وكنا نعيش في مستوى مادي مريح جدًّا، حتى أن أبناءنا — وخاصة ابني الوسطاني عمره ٢٠ سنة في الجامعة — تعوّد على الصرف بلا حساب، يشتري ما يريد، ولا يعرف معنى الادخار أو الاقتصاد.
لكن منذ العام الماضي تغيّرت ظروفنا تمامًا، فقد مرض زوجي مرضًا ألزمنا بإنفاق جزء كبير من مدخراتنا على علاجه، وتبدّل الحال من اليسر إلى الضيق، وأصبحنا نحاول التكيّف مع وضع مادي جديد تمامًا.
المشكلة إن ابني لا يتفهم هذا التغير، ما زال يطلب أشياء فوق طاقتنا، ويشعر بالضيق حين نرفض أو نحاول إقناعه بضرورة الترشيد، أحيانًا يغضب أو يتهمنا بالتقصير، وكأنه لم يعش معنا نفس الظروف.
أنا في حيرة، كيف أغيّر فكر ابني بعد كل هذه السنوات؟ وكيف أعوده على الاعتدال والادخار دون أن يشعر بالقهر أو أن حالنا تدهور؟
أرجو من حضرتكِ نصيحة واضحة لي ولزوجي.
عزيزتي الأم،
أولًا أقدّر ما تمرّين به من ضغوط نفسية ومادية، وما تحملينه من قلق على أسرتك وأبنائك، وهذا الشعور طبيعي تمامًا في ظل التغيّرات المفاجئة التي تمر بها الأسرة، فالمسؤولية في مثل هذه الظروف تحتاج إلى وعي، وصبر، وحكمة في إدارة الموارد والعلاقات معًا.
التنشئة الاستهلاكية
ما ذكرتِه عن ابنك الأوسط هو نتيجة طبيعية لما نسميه في علم النفس التربوي بـ "التنشئة الاستهلاكية" أو Consumer Socialization، وهي العملية التي يتعلّم فيها الأبناء عادات الإنفاق والاستهلاك من البيئة الأسرية دون وعي.
فعندما ينشأ الطفل في بيئة توفر له ما يريد بسهولة، يتكون لديه مفهوم غير متوازن عن المال والاحتياج الحقيقي، ويظن أن الرفاهية هي القاعدة، وأن التقشف أمر غير مقبول.
وهنا أؤكد لكِ أن التغيير ممكن، لكنه يحتاج إلى وقت وتدرّج؛ لأن ما تم ترسيخه سنوات لا يُمحى في شهور.
ثلاث خطوات للعلاج
وفي ضوء علم النفس الأسري، فإن العلاج يبدأ من ثلاث خطوات أساسية:
أولًا: الوعي المشترك وتغيير القناعة:
- يجب أن يُدرك ابنك أن ما يحدث ليس عقابًا ولا تراجعًا في المكانة الاجتماعية، بل هو مرحلة حياتية يمرّ بها أي بيت، وأن المال رزق متغير كتغير الفصول، قال تعالى: ﴿وتلك الأيام نداولها بين الناس﴾، وقال تعالى أيضًا: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾، فهو أمر الله ولا بد من هذا الابتلاء حتى وإن كان ضئيلاً، ولكن علينا بالصبر مع الجد والعمل.
- أشركيه في الصورة الكاملة -لا بالضرورة في التفاصيل المؤلمة- ووضّحي له أن المرض والإنفاق على العلاج واجب إنساني وأسري، وأن صبره وتفهّمه نوع من البر بالوالدين.
ثانيًا: إعادة بناء العادات المالية:
فمن المهم أن تُعلّميه مهارة الضبط الذاتي Self-Control والوعي المالي Financial Awareness بطريقة عملية، مثل:
- منحه مبلغًا محددًا شهريًّا وتركه يدير احتياجاته به.
- تشجيعه على الادخار ولو بنسبة بسيطة من مصروفه.
- ربط الإنفاق بالأهداف وليس بالرغبات.
- أشعريه كذلك أنكم أسرة متعاونة، لا أنكم تعاقبونه. فالمشاركة هنا تُنمي داخله الإحساس بالمسؤولية Responsibility، وهو ما يغرس ما نسميه في التربية بـ الاستقلال الناضج Mature Independence.
ثالثًا: التواصل القيمي والعاطفي:
من المهم أن تتحدثي معه دومًا حديث الأم الصديقة، لا الأم الناقدة. امنحيه شعورًا بأنكم في محنة عابرة، وأنه جزء من الحل وليس عبئًا على الأسرة. واستثمري الحديث في زرع القيم الإيمانية مثل الرضا، واليقين بأن الله يُبدل الحال من حال إلى حال، كما قال تعالى: ﴿إن مع العسر يسرًا﴾.
ثم اقترحي عليه أن يبحث عن عمل يتكسب منه ماديًّا ويكتسب منه خبرة بشرط ألا يعطله عن دراسته، كأن يكون مثلا في أشهر الإجازة الدراسية، فهذا سيجعله أكثر تحملاً للمسؤولية وأحرص على ما يكسبه من مال بعد جهد.
واحرصي على مكافأته معنويًّا حين يُظهر تعاونًا أو تفهمًا؛ لأن التعزيز الإيجابي Positive Reinforcement يُعيد تشكيل السلوك بشكل أسرع.
* وأخيرًا أود أن أقدم نصيحة عامة لكل الآباء والأمهات:
- احذروا من تعويد الأبناء على الرفاهية المطلقة دون حدود، فذلك يُضعف قدرتهم على التكيّف النفسي Psychological Adaptation في مواجهة الأزمات.
- علّموهم منذ الصغر أن المال وسيلة لا غاية، وأن الادخار ضرورة والبذخ والإسراف لا يرضي الله عز وجل كقوله تعالى: ﴿ولا تبذر تبذيرًا﴾، وكذلك قوله تعالى: ﴿إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا﴾.
- ازرعوا فيهم ثقافة الاعتدال قبل أن تضطروا إلى فرضها بالقوة، فالوعي الاقتصادي جزء من التربية الإيمانية والأسرية المتوازنة.
* همسة أخيرة:
غاليتي، كوني مطمئنة، ما دمتِ تتعاملين مع ابنكِ بالحب والحوار والقدوة، فستثمر جهودك بإذن الله تعالى. التغيير يحتاج صبرًا، ولكن نتائجه دائمة، بخلاف الحلول السريعة التي تزول بزوال الأزمة.
روابط ذات صلة:
مات والدي وأصبحت والدتي شديدة الإسراف.. ما العمل؟