الإستشارة - المستشار : أ. فتحي عبد الستار
- القسم : الابتلاءات والمصائب
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
61 - رقم الاستشارة : 1997
19/05/2025
أنا أختكم في الله. كثيراً ما أرى في الدنيا من ظلم وقهر، ومظلومين يعانون وظالمين يفلتون بأفعالهم.
إيماني بعدل الله يوم القيامة هو سلوتي وعزائي. لكن يراودني سؤال: لماذا لا نرى هذا العدل كاملاً في الدنيا؟
ولماذا يؤخر الله الحساب إلى يوم القيامة؟
مرحبًا بك أختي الكريمة، وأشكر لكِ ثقتكِ بنا ومراسلتكِ إيانا، وأسأل الله العلي القدير أن يشرح صدركِ، ويُنير دربكِ، ويجعل إيمانكِ نورًا لكِ في الدنيا والآخرة، وبعد...
فإن ما ترينه من صور الظلم والقهر في هذه الدنيا هو -لا شك- أمر يؤلم كل قلب مؤمن، ويثير في النفس تساؤلات مشروعة حول حكمة الله وعدله. فمن الطبيعي أن تتوق النفس البشرية إلى رؤية الحق ينتصر والباطل يندحر في الدنيا، وأن تشاهد عينُ الإنسان جزاءَ الظالم وعزاءَ المظلوم رأي العين.
ولكن، يا أختي، إن حكمة الله أوسع من مداركنا القاصرة، وعدله -سبحانه وتعالى- أعمق من أن تحيط به عقولنا المحدودة.
لماذا لا نرى العدل كاملاً في الدنيا؟
إن الدنيا ليست دار الجزاء الكامل؛ بل هي دار الابتلاء والعمل والاختبار. لقد خلق الله هذه الحياة لتكون ميدانًا للتنافس في الخيرات، وساحة للامتحان في الصبر على البلاء والشكر على النعماء، والإيمان بالغيب. ولو كان الجزاء كاملاً في الدنيا، لما كان هناك معنى ليوم القيامة، ولما تميز المؤمن الصابر عن الكافر الجاحد.
فالله عز وجل، بحكمته البالغة، يؤخر الجزاء الأكبر والأوفى إلى يوم القيامة، ذلك اليوم العظيم الذي ﴿يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [المطففين: 6]. في هذا اليوم، تُنصب الموازين العادلة، ويُقتص للمظلوم من الظالم مثقال ذرة، ولا يُظلم أحدٌ فتيلاً. يقول الحق تبارك وتعالى: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ﴾ [الأنبياء: 47].
كما أن تأخير الحساب فيه رحمة وحكمة بالعباد. فكم من ظالم قد يتوب ويرجع إلى الله، وكم من غافل قد يستفيق ويسلك طريق الهداية. فلو كان الجزاء فوريًّا في الدنيا، لضاقت الأرض على كثيرين، ولما أُمهل العاصي ليتوب.
لماذا يؤخر الله الحساب إلى يوم القيامة؟
إن تأخير الحساب إلى يوم القيامة يحمل في طياته حِكَمًا عظيمة وأسرارًا جليلة، منها:
1- إظهار عدل الله المطلق:
في يوم القيامة، يتجلى عدل الله تعالى بكماله وجلاله، حيث لا يضيع حق لأحد، ويأخذ كل ذي حق حقه. يقول سبحانه وتعالى: ﴿الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ [غافر: 17].
2- تمييز الخبيث من الطيب:
إن الدنيا دار اختلاط وابتلاء، يختلط فيها المؤمن بالكافر، والصالح بالطالح. وفي يوم القيامة، يتميز هؤلاء، ويُفصل بينهم، ويُجازى كلٌّ بما يستحق. قال تعالى: ﴿لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ [الأنفال: 37].
3- إظهار حكمة الله في تدبير الأمور:
قد يرى الإنسان الظلم في الدنيا ظاهرًا، ولكنه قد يكون في باطنه حكمة لا يدركها إلا الله. فتأخير الحساب يكشف عن هذه الحكم، ويُظهر عظمة تدبير الله للأمور.
4- إعطاء الفرصة للتوبة والرجوع:
كما ذكرنا سابقًا، فإن تأخير الحساب يمنح الظالم فرصة للتوبة والإنابة، ويعطي المذنب فرصة للاستغفار والرجوع إلى الحق. ورحمة الله وسعت كل شيء.
5- تحقيق العدل الشامل الكامل:
إن عدل الله في الدنيا قد يكون جزئيًّا أو مؤقتًا، ولكنه في الآخرة سيكون شاملاً وكاملاً أبديًّا. ففي الجنة نعيم مقيم لا يزول، وفي النار عذاب شديد لا ينقطع.
وختامًا أختي الفاضلة، تذكري قول النبي ﷺ: «إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته». [متفق عليه]. فالله يمهل ولا يهمل، وقد يؤخر العقوبة في الدنيا لحكمة، ولكنه -سبحانه وتعالى- سيقتص من الظالمين في الآخرة أشد الاقتصاص.
ثقي بحكمة الله وعدله، واعلمي أن الدنيا فانية وزائلة، وأن الآخرة هي دار البقاء والجزاء الحق. فاصبري واحتسبي، وكوني من الذين قال الله فيهم: ﴿وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ﴾ [الرعد: 22- 24].
نسأل الله أن يثبت قلبكِ على الإيمان، وأن يجعلكِ من الصابرين المحتسبين، وأن يرزقك وإيانا جنات النعيم.