الإستشارة - المستشار : أ. مصطفى عاشور
- القسم : فكرية
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
82 - رقم الاستشارة : 1919
13/05/2025
هل شعورنا المبالغ فيه بالذنب يعتبر عائقًا أمام حريتنا الفكرية؟ وكيف نحرر عقولنا من تلك العقدة؟
هل الشعور بالذنب من سمات الشخصية السوية، أم أنه حالة مرضية قهرية لها تأثيراتها السلبية على التفكير والعقل والشخصية؟
الحقيقة، إنها أزمة تصيب الكثير من البشر.. وجزء غير قليل من هؤلاء من ذوي الضمائر الحية، والنفوس الزكية، والإيمان اليقظ، وهؤلاء تؤرقهم تلك العقدة وتنغص عليهم حياتهم.
لعل من أهم صفات وسمات الشخصية السوية هي المسؤولية عن الأفعال، وقد يكون الشعور بالذنب "الحميد" من سمات الشخصية السوية، ومن عوامل العافية والقوة في الشخصية والأخلاقية؛ فالشعور بالذنب –غير المرضي- من عوامل نمو الشخصية ومن عوامل الإصلاح السلوكي.
عندما يشعر الإنسان بوخز الخطأ والذنب والمعصية، ثم ينتقل من هذا الشعور لتعديل سلوكه نحو الأفضل والأحسن والأنفع، نكون في هذه الحالة أمام حالة إيجابية، ولعل هذا ما حث عليه الإسلام، ورأى أن الندم والاستغفار والتوبة من عوامل عافية القلب والإيمان والأخلاق.
لـــكن اليأس من روح الله والقنوط من رحمته، والظن بأن الذنب لا يُغفر، وأن السيئة لا تُمحى، كل ذلك من التأثيرات التي خلفتها عقدة الذنب والمعصية، فنقلت الشخص من رجاء التوبة والغفران إلى القنوط التام من رحمة الله تعالى.
ولكن ما هي عقدة الذنب؟
عقد الذنب هي شعور بأن الشخص ارتكب خطأ يؤثر على مواقفه وأفعاله، وهي حالة تدفعه إلى لوم الذات بقسوة، وقد تجبره على الانزواء والانعزال، وقد تنتهي به إلى الاكتئاب.
يشير علماء النفس إلى أن من تأثيرات عقدة الذنب انشغال الإنسان بالأخطاء، وخضوعه للوساوس، وقلة النوم والتوتر والقلق والعزلة، وازدراء الذات.
العـــــلاج: من أهم علاجات عقدة الذنب، هو العلاج السلوكي المعرفي، أي مخاطبة الإنسان لأفكاره وتغييرها نحو الأفضل، ونحو الابتعاد عن الأفكار الطفيلية التي تطرحها عقدة الذنب والخروج من ضغطها وقهرها إلى فضاء أوسع من الأفكار والرؤى، فهذا هو العلاج الأنجع.
يطلق البعض على هذه العملية "إعادة الهيكلة المعرفية"، ويرون أن المدخل الرئيسي للعلاج هو السلوكي المعرفي، من خلال التمييز بين الأفكار المفيدة والأفكار غير المفيدة، ومعالجتها.
ولعل هذا ما تطرحه التوبة كمفهوم إيماني وفكري على الإنسان المؤمن في حالة ارتكابه الذنوب أو حتى الكبائر، فنجد أن الرؤية الإسلامية تؤكد أن الشيء الذي لا يُغفر إنما هو الشرك بالله، أما ما عدا ذلك فهو مغفور بإذن الله ما دامت هناك توبة صادقة، يقول تعالى في سورة "الزمر" الآية (53): {قُلۡ يَٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ أَسۡرَفُواْ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡ لَا تَقۡنَطُواْ مِن رَّحۡمَةِ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ يَغۡفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعًاۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلۡغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ}، فهذه الآية الكريمة تحطم "عقدة الذنب" إيمانيًّا ومعرفيًّا، تحطم تلك العقدة التي تحول بين الإنسان وبين خالقه سبحانه وتعالى، وتحول بين الإنسان وبين الناس وبين كل معروف.
يقول سيد قطب في تفسير هذه الآية الكريمة: "وبعد أن يلج (هذا الإنسان) في المعصية، ويسرف في الذنب، ويحسب أنه قد طرد وانتهى أمره، ولم يعد يقبل ولا يستقبل.. في هذه اللحظة لحظة اليأس والقنوط، يسمع نداء الرحمة الندي اللطيف {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله . إن الله يغفر الذنوب جميعًا . إنه هو الغفور الرحيم} وليس بينه وبين الرحمة الندية الرخية، وظلالها السمحة المُحيية، ليس بينه وبين هذا كله إلا التوبة، التوبة وحدها، الأوبة إلى الباب المفتوح الذي ليس عليه بواب يمنع، والذي لا يحتاج من يلج فيه إلى استئذان".
الأمر الآخر: تدريب العقل على التمييز بين الأفكار والمشاعر، وبين الأفكار والحقائق؛ فالأفكار هي عمليات معرفية ذهنية، أما المشاعر فهي تجارب واعية كالسعادة والحزن والغضب، أما الحقائق فهي ما يمكن إثباته أو نفيه بشكل موضوعي.
هذا التمييز يمنح العقل القدرة على فرز كل ما يدور داخله، والتمييز بينه في درجة الصدق والإثبات واليقين والتغير، وعند تلك النقطة ينشط العقل ليمسك بزمام التفكير المنطقي القائم على الدليل والحجة والبرهان، وهو ما يشتت مشاعر "عقدة الذنب" الحادة، ويحولها من حالة مرضية مستعصية إلى حالة يمكن التعاطي معها، وتجاوز إلحاحها القهري المرضي نحو مساحات من العافية والصحة النفسية والعقلية، وفي هذا الحالة فإن الشخص يرفض عقليّا أن تكون عقدة الذنب هي الموجه لأفكاره وسلوكه.