الإستشارة - المستشار : د. عادل عبد الله هندي
- القسم : التخطيط الدعوي
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
27 - رقم الاستشارة : 2947
12/10/2025
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أنا طالبة في الجامعة، يملأ قلبي حب الدعوة إلى الله، وأتمنى أن أكون سببًا في هداية زميلاتي وبث روح الطهر والإيمان بينهن. غير أنني أواجه صعوبة تؤرقني: أحيانًا تسألني بعض زميلاتي عن رأيي في لباس ترتديه، وأنا أعلم أنه لباس فتنة لا يرضي الله، لكنني أخشى إن قلت لهن: هذا حرام، أن يغضبن أو ينفرن مني أو يغلقن أبواب قلوبهن. ولهذا أجدني أحيانًا ألين القول وأصف اللباس بأنه "جيد" أو لا أُصرّح بحرمته، لأنني أعلم أنهن لا يتقبلن النصيحة المباشرة. فهل بهذا أكون آثمة؟ وهل يعدّ هذا تضييعًا لأمانة الدعوة؟ وبماذا تنصحونني لأكون داعية مؤثرة تجمع بين الحكمة والصدق دون أن أنفر من حولي؟
مرحبًا بكِ أيتها الطالبة المباركة، وأسأل الله أن يشرح صدرك، ويثبتك على طريق الحق، ويجعلكِ من الداعيات الصادقات اللواتي قال فيهن النبي ﷺ: (لأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا خير لك من حمر النعم)، أبشري فإن مجرد همّك بالدعوة، وخوفك من أن تكوني قد قصرتِ، هو علامة حياة قلبك وصدق نيتك، فهنيئًا لكِ بهذا الطريق المبارك.
وللجواب عن استشارتك، دعينا نسر على خطوات مرتبة تجمع بين التأصيل الشرعي، والوعي النفسي والاجتماعي، والتجارب التاريخية:
حكم السكوت عن المنكر أو تغييره
* الإسلام يأمرنا بالبيان وعدم كتمان الحق، قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَٰئِكَ يَلعنُهُمُ اللَّهُ وَيَلعنُهُمُ اللَّاعِنُونَ﴾ وقال النبي ﷺ: كما عند مسلم (من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان).
* إذن، من حيث الأصل، الواجب هو النصح والبيان، لكن بقدر الاستطاعة، وبما لا يجر إلى مفسدة أعظم.
ضوابط الحكمة في الدعوة
* قال الله تعالى: ﴿ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ (النحل: 125). والحكمة هي وضع الكلام في موضعه، فقد يكون التصريح المباشر بالتحريم سببًا لنفور السامع، بينما التدرج واللين قد يفتح القلوب.
* النبي ﷺ نفسه كان يراعي حال السامع، فقد رُوي أن رجلًا بال في المسجد، فقام الصحابة ليزجروه، فقال ﷺ: (دعوه، لا تُزرِموه، ثم صبوا على بوله ذنوبًا من ماء، فإنما بُعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين). هذا الموقف يبين لنا أن الحكمة قد تعني السكوت المؤقت عن الخطأ إلى أن يأتي وقته المناسب للتصحيح.
هل يعد سكوتك إثمًا؟
إن كان في قولك "جيد" نوع تزكية للحرام أو تزيين له، فهذا لا يجوز، لأن الله يقول: ﴿وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ (البقرة: 42). لكن إن كنت تخشين من الصدام، فاكتفي بقول كلمات عامة مثل: "الستر أجمل" أو "أنا أفضّل الملابس المحتشمة"، دون أن تصدري حكمًا بالتحليل. فهذا يخرجك من الكذب، ويُبقي الباب مفتوحًا للنصيحة غير المباشرة.
وفي حال خشيتِ الأذية أو النفور التام، فلكِ أن تؤجلي التصريح، وتستبدلي بذلك دعوة بالقدوة أو باللين، كما ثبت بأن المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم.
طرق بديلة وذكية للتأثير الدعوي
1. النموذج العملي: كوني أنتِ قدوة في لباسك المحتشم وأناقتك المهذبة، فالقدوة أبلغ من آلاف الكلمات.
2. الكلمة اللطيفة: بدل أن تقولي "هذا حرام"، قولي: "جميل، لكن أتعلمين أن الله يحب الستر أكثر؟" هكذا تنقلينها من مساحة الجمال إلى مساحة رضا الله.
3. إثارة التفكير: اسأليها: "تخيلِي لو وقفتِ بهذا اللباس بين يدي الله يوم القيامة، هل ستكونين راضية أن يراكِ هكذا؟"
4. الاستعانة بالقصص: أخبريهن بقصة الصحابيات اللواتي كنّ يرتدين الجلباب اتباعًا لأمر الله: ﴿يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ﴾
5. البدائل العملية: اقترحي عليهن أنواعًا جميلة من الملابس المحتشمة، وأظهري لهن أن الحشمة لا تعني غياب الذوق.
وانظري معي الآن إلى التاريخ والواقع
* في التاريخ الإسلامي: لما أسلمت نساء المدينة ونزلت آية الحجاب، لم يفرض الصحابة الأمر بالقوة، بل انتشر بالحكمة، وروت عائشة رضي الله عنها: "رحم الله نساء المهاجرات الأول، لما أنزل الله ﴿وليضربن بخمرهن على جيوبهن﴾ شققن مروطهن فاختمرن بها.
* وفي الواقع المعاصر: كثير من الفتيات اليوم اهتدين بسبب كلمة لطيفة من زميلة أو مربية، أو بسبب رؤية قدوة صالحة، أكثر مما اهتدين بسبب أسلوب التوبيخ أو التصريح الجاف.
ومن هنا أقدم إليك نصائح عملية كداعية شابة
1. اجعلي الدعوة شاملة: لا تركزي فقط على اللباس، بل على معاني الإيمان، حب الله، الاستعداد للآخرة، فإذا قويت القلوب تغيّر السلوك تلقائيًّا.
2. التدرج: كما نزلت الشريعة بالتدرج، فلتكن دعوتك متدرجة، خطوة بخطوة.
3. الدعاء لهن: اجعلي لزميلاتك نصيبًا من دعائك في جوف الليل، فما هدى الله عمر بن الخطاب إلا بدعوة النبي ﷺ.
4. التحصين بالعلم: احرصي أن تدرسي العلم الشرعي من مصادره، حتى يكون عندك يقين في الحقائق وأدلة قوية عند الحاجة.
5. الجمع بين الصدق والرحمة: لا تجاملي في الدين، لكن غلفي الحق بالرحمة، فالداعية قلب قبل أن تكون لسانًا.
وختامًا -أيتها الأخت المباركة- تذكري أن الدعوة إلى الله ليست مجرد كلمات تُلقى، بل هي فنّ وحكمة وصبر طويل. وليس المطلوب منك أن تواجهي كل منكر بصدام مباشر، بل أن تختاري الأسلوب الذي يفتح القلوب لا الذي يغلقها.
احرصي أن تبقي صادقة مع الله أولًا، ثم صادقة مع نفسكِ، وألا تجعلي مجاملة الناس سببًا في مداهنة الباطل. وفي الوقت نفسه، ثقي أن الكلمة اللطيفة قد تغيّر قلبًا، وأن القدوة الصالحة قد تهدي عشرات.
أسأل الله أن يجعلك مفاتيح للخير، مغاليق للشر، وأن يرزقك لذة الدعوة وثوابها، وأن يفتح على يديك قلوبًا غافلة فتعود إلى الله.
روابط ذات صلة:
بين الصدق والمجاملة.. كيف أعبِّر عن رأيي دون إيذاء الآخرين؟