كيف نوازن بين الأمل وواقع المسلمين اليوم؟

Consultation Image

الإستشارة 24/08/2025

فضيلة الشيخ، كيف نجمع بين التفاؤل بوعد الله بانتشار الإسلام عالميًّا، كما في قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ﴾ وبين الواقع المؤلم الذي تعيشه شعوب مسلمة من حروب وتشويه إعلامي وضعف داخلي؟

الإجابة 24/08/2025

الحمد لله الذي جعل هذه الأمة خير أمة أخرجت للناس، تصبر على البلاء، وتبشر بالرخاء، وتستمسك بحبل الله المتين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي علّم البشرية معنى الأمل في أحلك الظروف.

 

ثمّ إنّ الجمع بين الأمل بالوعد الإلهي والواقع المرير قضية مركزية في حياة المسلمين. وكثيرًا ما يسأل الناس: إذا كان الإسلام منصورًا وموعودًا بالظهور، فلماذا نرى أمتنا ممزقة وضعيفة، ودماء المسلمين تسيل في بقاع شتى؟ وإليك الآتي:

 

أولًا: طبيعة الوعد الإلهي

 

قال الله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ إنّ الوعد هنا هو وعد مطلق بالظهور. وقد فسّـره العلماء بظهور الحجّة والبيان، وظهور السلطان والقوة، وكلاهما واقع لا محالة، وظهور الحجة قد تحقق منذ نزل القرآن وانتشر في العالم، وظهور السلطان يتجدد في كل مرحلة تاريخية، وهو سنّة تتخللها فترات استضعاف وتمحيص.. إذن وعد الله لا يتناقض مع واقع الابتلاءات، بل هو وعد بغاية المسيرة، أما الطريق فهو مليء بالاختبارات.

 

ثانيًا: سنة الابتلاء قبل التمكين

 

يقول المولى الكريم: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾ هذه الآية تختصر المعادلة: التمكين لا يأتي إلا بعد الزلزلة، والنصر لا يُرى إلا بعد طول صبر.. فما يجري اليوم في فلسطين وسوريا واليمن وغيرها ليس تناقضًا مع وعد الله، بل هو جزء من سنة الابتلاء التي تسبق النصر.

 

ثالثًا: نماذج من التاريخ

 

انظر معي إلى تلك النماذج، وما كان في شأنها، على نحو ما يأتي:

 

1) عصر مكة: لقد عاش المسلمون ثلاث عشرة سنة في الاستضعاف، حُوصِروا في الشعب، وعُذِّب بلال وخباب، ومع ذلك كان النبي ﷺ يقول: «والله ليُتِمَّنَّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله». هذا النموذج يعلّمنا أن الأمل يعيش حتى في لحظة العجز.

 

2) الحروب الصليبية: عندما احتل الصليبيون القدس قرابة قرن من الزمان، ظن الناس أن الأمة انتهت، لكن ظهر صلاح الدين وحررها، إذن غياب التمكين المؤقت لا يلغي الوعد الإلهي، بل يؤكد سنّة التداول.

 

3) سقوط الأندلس مقابل صعود العثمانيين: بينما كانت الأندلس تسقط، كان الإسلام ينتشر في آسيا الوسطى والبلقان، فالضعف في مكان قد يقابله قوة في مكان آخر، والمحصلة النهائية هي الامتداد العالمي للإسلام.

 

رابعًا: قراءة الواقع المعاصر

 

نعم، الأمة تعيش جراحًا في فلسطين وغزة وسوريا، لكنها في المقابل تشهد صحوة إسلامية عالمية: آلاف يدخلون الإسلام في الغرب، جامعات إسلامية تنتشر، مراكز قرآنية تنمو، والوعي بالقضية الفلسطينية يزداد عالميًّا، إذن الصورة الكاملة ليست قاتمة كما يصورها الإعلام، بل هي صورة معقدة: ألم في موضع، وأمل في موضع آخر.

 

خامسًا: الموازنة بين الأمل والواقع

 

 1) الأمل فقه إيماني: الأمل ليس مجرد تفاؤل عاطفي، بل هو عقيدة. قال ﷺ: «إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فإن استطاع ألا يقوم حتى يغرسها فليفعل». أي أن المسلم يزرع الأمل حتى لو انهار الكون.

 

2) الواقع لا يُغفل، علينا أن نكون واقعيين: الاعتراف بالضعف والتشتت والخذلان أمر واجب؛ لأنه مدخل الإصلاح. لكن ينبغي ألا يتحول إدراك الواقع إلى يأس، بل إلى دافع للعمل.

 

3) الجمع بين النظرتين: أن ننظر للواقع بأعين بشرية مليئة بالهمّ، وننظر للمستقبل بقلوب مؤمنة بالوعد، وهذا هو "فقه الموازنة" الذي ميّز الصحابة: صبر في مكة، وحسم في بدر، وحكمة في صلح الحديبية.

 

سادسًا: الأدوات العملية للجمع بين الأمل والواقع

 

1) التربية القرآنية بأن يتعلم المسلمون آيات الصبر والتمكين، ليعرفوا أن سنن الله لا تتبدل، وتخصيص برامج تربوية في المساجد والمدارس حول سور مثل: الأنفال، يوسف، القصص.

 

2) الإعلام الإيجابي: نشر قصص الداخلين في الإسلام، والنماذج المشرقة، بجانب عرض المآسي، والتوازن بين إبراز الجراح وبين بثّ الأمل.

 

3) بناء الوعي السياسي: فهم أن الصراعات الجارية جزء من سنن التدافع الحضاري، وتثقيف الشباب أن الإسلام لا يُقاس بقوة دولة أو ضعفها، بل بخلوده كدين عالمي.

 

4) العمل الدعوي والخيري: ربط الناس بالعمل لا باليأس: كل مشروع خيري أو دعوي صغير هو لبنة في طريق النصر، وتحويل مشاعر الغضب من الواقع إلى طاقة عمل.

 

سابعًا: دروس تطبيقية للأفراد

 

- إذا رأيت مشهد قصف في فلسطين، فاعلم أن وراءه مشهدًا آخر في أمريكا اللاتينية حيث يدخل العشرات في الإسلام.

 

- إذا حزنت من ضعف الحكومات، فافرح بقوة المجتمع المدني الإسلامي الذي ينمو بلا دعم رسمي.

 

- إذا شعرت بالعجز عن نصرة إخوانك، فارفع يديك بالدعاء، وأنت على يقين أن الدعاء سهم لا يخطئ.

 

واعلم ختامًا أخي الكريم بأنّ الجمع بين الأمل والواقع ليس تناقضًا، بل هو جزء من منهج الإسلام. الأمل هو إيمان بالوعد الإلهي الذي لا يتخلف، والواقع المرير هو جزء من الطريق الذي يهيئ الأمة للنهضة. من لا يفهم هذه الموازنة يقع إما في اليأس القاتل أو التفاؤل الساذج. أما المؤمن الواعي فيعيش بين الأنين والعمل، بين الحزن على الواقع واليقين بالمستقبل.

 

وننصح بالآتي:

 

- ربِّ نفسك وأهلك على قراءة قصص القرآن التي تجمع بين الابتلاء والتمكين.

 

- لا تكتفِ بمشاهدة الأخبار؛ حوّل مشاعرك إلى عمل خيري أو دعوي.

 

- علّم أبناءك أن الإسلام أكبر من حدود دولة، وأعظم من انتكاسة مؤقتة.

 

- اجعل شعارك: “أبذل جهدي، وأبقى متفائلًا، وأستودع النتائج عند الله”.

 

وأسأل الله تعالى أن يحفظنا وإياكم بحفظه، وأن يستخدمنا وإياكم في مرضاته.

الرابط المختصر :