الإستشارة - المستشار : أ. عزة مختار
- القسم : أسرية
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
466 - رقم الاستشارة : 1651
16/04/2025
أعيش حالة من الماضوية، لم يعد يعجبني شيء في حاضري، لم يعد يرضيني حالي، لا أفكر إلا في اختياراتي القديمة والتي تسببت فيما وصلت إليه اليوم، كل مشاعري تحولت إلى الندم السلبي، ليس ندما إيجابيا يكون دافعا للإصلاح ونسيان الأذى الذي آذيته لنفسي خاصة أنها أشياء لا يمكن أن تعاد لتبديلها، فما وقع قد وقع.
ومع ذلك أستغرق في حالة من الحزن وانتظار الموت الذي أجد فيه الحل الوحيد لما أمر به، بل يأخذني شيطاني أحيانا لتفكير في التخلص من حياتي بترك التداوي من أمراض مزمنة كي أعجل بإنهاء حياتي، أعرف أنه لا سبيل للعودة بالزمن لاستدراك ما فات وإصلاحه، فلو عدت ما فعلت، لكنه لا سبيل.
صرت أرى الناس وكأنهم جميعا أفضل مني، وهم بالفعل أفضل، فهم لم يقعوا فيما وقعت فيه من زلل، أتدرين يا سيدتي ما هو الزلل الذي وقعت فيه ودمرت حياتي كلها؟ ذلك الزلل هو زواجي بعد وفاة زوجي رحمه الله، مما أثار الكون كله ضدي، أولادي وأهلي والمحيطين بي، حتى صرت همًّا يسير على الأرض يودون من التخلص منه.
وبعد أن انتبهت وأنا في بداية الثلاثينات حينها أنه لم يكن مني النظر للأمر بنظرة شخصية أو مثالية وأفعلها، فأنهيته بعد أقل من عام في صراع كبير مع كل من حولي، وبعد مرور ما يقرب من العشرين سنة، إلا أنني ما زلت أعاني تبعاته وكأنني قد اقترفت كبيرة ما يجب أن أحاسب عليها حتى أموت.
زهدت كل شيء من حولي، الدنيا كلها صغرت في عيني فلم أعد أرغب بشيء منها، أو بأحد حتى أقرب الناس لي بعدما تعرضت له من ظلم، أو بعدما عرضتهم جميعا للظلم حين ارتضيت على نفسي أن أتزوج برجل غير زوجي الذي ترك لي أربعة من الأبناء كان أكبرهم في المرحلة الابتدائية، وقد كنت أظن أن قيم الدين سوف تكون غالبة، وأن هناك من سوف يحمل معي عبء الأيام، لأجدني مقذوفة بحجارة حتى اليوم لم تهدأ.
والآن أنا بالبيت وحدي بعدما انفض الجميع لحياتهم، منهم من هاجر، ومنهم من سافر بعيدا وقد بنى بيتا آخر وانفض لحياته، إن قمت بالاتصال بهم يردوا، وإن لم أقم بالاتصال لا يذكر أحد وجودي، تركوني للندم يأكل قلبي، أحاول إصلاح ما تم كسره، لم ينكسر فقط، وإنما تشتت أجزاؤه فلم أعد قادرة على لملمة ما تناثر منها فأصلحه، لأنه ببساطة، الزمن لا يعاد، والأحداث لا تعاد، وفرصتنا في العمر مرة واحدة، والعمر حين يمضي بأحداثه، لا شيء يعيده.
أقيم مع الندم والحزن في بيت واحد، ولا يطرق بابنا سوى نسمات الطريق حين تمر، أو بعض خطوات المارة تشق جوف الليل بينما النوم يجافيني، حتى علاقتي بالله لم تعد كما كانت، علاقة ينقصها الإقبال الروحي، أؤدي الصلاة ولا أقيمها، أحادث الله بقلب حزين غافل، بيني وبين عباداتي ليل وظلمة وصمت طويل.
صرت أحسد الناس على ما هم فيه حتى من انشغال بالدنيا، فجميعهن لم تخطئ مثلي وتتزوج برجل آخر، جميعهن لم تحدث بينها وبين أبنائها فجوة مرعبة جعلت العمر يمر مريرا، جميعهن حتى وإن كن أرامل أو مطلقات أو غير متزوجات من الأساس لم يرتكبن فاحشة الزواج، واسمحي لي سيدتي أن أسميها كذلك، فهذا ما ألقوه في روعي، وهذا ما أؤمن به الآن وأعاني نتائجه، الزواج جريمة عاقبني عليها الجميع، وأنا اليوم أكمل العقاب وأنزله على نفسي بحزن عميق يجتاح جميع نفسي ولا أجد منه مفرا.
صرت أحسد الجميع أنهم لسن مثلي، فأنا المخطئة التي لا يجب أن تسامح ذاتها، فماذا أفعل؟ دليني عسى أن يهدأ قلبي قليلا، عسى أن أجد إلى ربي ملاذا، عسى أن يغفر لي فأصلح ما بيني وبينه، لم أعد أريد سوى حسن الخاتمة، فكيف السبيل إلى سلام نفسي يحملني إليها؟
بارك الله في عمرك، وجبر قلبك، وأسعد روحك، وآنس وحدتك، ورضي عنك وأرضاك، وأهلاً ومرحبًا بك على صفحات المجتمع بين إخوتك وأخواتك الذين اهتموا لما تطرحين بالرغم من العجب من حجم ما تحملينه من ألم وهم وحزن.
أبدأ بالحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، محمد نبي الأمة الصادق الأمين، صلى الله عليه وسلم، ثم أما بعد:
حقيقة –حبيبتي- أن تلك المشكلة إن جاز لي تسميتها بمشكلة، وأحب أن أسميها "مأساة"، هي من أعجب المشكلات التي لم أقابل مثلها من قبل، والمأساة هنا لا تخصك أنت، بل تخص من فعل بك ما فعل، تخص كل من ساهم في توصيلك لتلك الحالة من الحزن الذي استعاذ منه الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم قائلا: "اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن"، فالحزن قاصم للقلب، قاتل للروح، يجعل الإنسان مسخًا قابلاً للمرض وكأنه داء بلا دواء، هو في ذاته مرض يفقد الإنسان مناعته، فيصير نهبة لكل مرض عابر فيقعد همته، ويقضي على طموحاته ورغباته.
إن مشكلتك متشعبة بالرغم من أنك لم تصنعيها، وإنما كنت ضحية لها، ضحية مجتمعات أصابتها الأنانية، والبعد عن شريعة رب العالمين، والقياس بعدة مقاييس بين حاجة الرجل وحاجة المرأة في الزواج الثاني، سواء كانت ذات أبناء يحتاجون لأب في الزمن الصعب، أم بدون أبناء لتصنع عائلة جديدة تستمر معها الحياة، وتحصن نفسها، وكأن المجتمع المسلم يحكم على المرأة أن تموت مع زوجها الميت، وأن يجروا عليها قوانين الأموات لا الأحياء الذين ما زالت تعيش بينهم، فيطلقون عليها الأقاويل، ومنهم من يقاطعها ويتهمها بتهم تصل إلى الفجور أعاذنا الله.
مشكلتك التي صنعوها لك هي أنهم فرضوا عليك رؤيتهم، فاعتراك الخوف وقد كنت وحدك بعد اتخاذك خطوة الزواج، فتنازلت في لحظة ضعف عن حقك في الحياة وانفصلت عن زوجك الثاني تحت ضغوطهم الظالمة، استبعدوا فعل النبي القدوة والأسوة للعالمين، ليصير إيمانهم نظريًّا، ويصير إسلامهم مجرد كلمات تقال في أروقة المساجد، بينما حياتهم العملية بعيدة كل البعد عن الشريعة التي ارتضاها الله لخلقه.
فهل لو كان الزواج نقيصة كما ذكرت، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فهل كانت فعلته سيدة نساء العالمين خديجة رضي الله عنها دون أن توجه لها كلمة لوم؟ هل كان فعله النبي صلى الله عليه وسلم بعد حمله رسالة رب العالمين للبشرية، فلم يتزوج سوى بكر واحدة؟ هل كان فعله الصحابة رضوان الله عليهم، فلا تكاد ترى بالمجتمع المسلم امرأة بدون زوج، رغم كثرة الشهداء في فجر الرسالة؟
فمن أين إذن أتت تلك المعاني التي شوهت إنسانيات الأمة فصارت مسخًا بغير رحمة، وصارت النساء فيها عورة، وصار الحلال فيها حرامًا؟ من أين هبطت تلك المعاني على أمة فيها مثل عاتكة بنت زيد، أخت سعيد بن زيد أحد العشرة المبشرين بالجنة، وتزوجت خمسة من الصحابة استشهدوا جميعًا، وقيل فيها تمجيدًا لها، من أراد أن يموت شهيدًا فليتزوج عاتكة، ولم يقل عنها بأنها "نحس" تتسبب في موت أزواجها، أو كفاها من الرجال بعد موت زوجها، مجتمع صحيح النفس، طيب الأصل، واقعي النظرة، متصالح مع ربه، سوي مع نفسه؟ من أين أتت تلك المعاني البالية الساذجة بين مجتمعات تحل الرذيلة وتحارب الفضيلة، وتجد مبررًا للعلاقات غير الأخلاقية، وتقف بالمرصاد لمن أراد لنفسه الإحصان؟
هوني عليك يا حبيبتي، فمن اقترف الرذيلة من منعوك من إتمام زواجك، ومن ألقوا الرعب في قلبك حتى اختلطت الموازين، ومن استخدم الإرهاب لتعودي عن قرارك خوفًا منهم ورعبًا، ثم دفعوك للوم نفسك لمدة سنوات، يرضي من هذا؟ في قرارة نفسك، هل هذا يرضي الله ورسوله؟ أنت ترتكبين إثما آخر في حق نفسك، بل تضيفين جريمة على جريمتهم في حقك، هم من أخطؤوا وليس أنت، هم من أجرموا وقد وجب عليهم الاستغفار وليس الاعتذار.
وقد آن الأوان أن تنتبهي أن تنتبهي أنت لنفسك من جديد، وتعيشي حياتك التي وهبها الله لك، اعملي واجتهدي واخرجي من تلك الشرنقة التي طوقت بها روحك وقلبك، أنت ما زلت تتنفسين، ما زلت تشعرين، ما زلت بحمد ربك تسبحين، ما زلت تقومين بالليل تؤدين لله ركعات، أقيميها يا حبيبتي ولا تلقي بالك لهؤلاء المرضى، فما هم إلا مرضى ألقوا بظلال أمراضهم عليك.
انتبهي قبل أن ينقضي عمرك في ندم على ما لا يجب الندم عليه، بل كان يجب عليك الندم على خوفك منهم، أتدرين كم بالقبور يتمنون العودة للحياة ولو ساعة واحدة يعيشونها في طاعة الله والعمل له؟ أنت ما زلت بالدنيا، تجري عليك سنن الله في الأحياء؛ فمن يستطيع انتزاع ذلك الحق منك؟ لقد نصبوا من أنفسهم آلهة يشرعون لك من دون الله، وأنت استسلمت لذلك.
فادفعي عنك ذلك القيد وتحرري من الخوف منهم، واجعلي قبلتك الله وحده، إن كنت ما زلت في حاجة للزواج فلتقومي بالاختيار الصحيح، وإن كنت قد استغنيت فاشغلي نفسك بغيره، اعملي، التحقي بدراسة تنفعك، اخرجي للنور وساعدي من هم في حاجة إليك، غيّري نمط حياتك فأنت تستحقين، ودعي عنك الوهن وبقايا الظلم، وكفي عن جلد ذاتك، فلا يستحق الجلد إلا من دفع بك لكل ما تمرين به.
أسأل الله لك الجبر والهناء والسعادة والرضا ، وخيري الحياة الدنيا والآخرة، إنه ولي ذلك وهو عليه قدير.