الإستشارة - المستشار : أ. فتحي عبد الستار
- القسم : إيمانية
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
88 - رقم الاستشارة : 1694
23/04/2025
أنا كنت في غفلة عن الذكر وعن القرآن الكريم وكنت على ذنوب، لكني الحمد لله أطلب التوبة والمغفرة من الله، في هذه الأيام أصابتني ضائقة مالية وأصبحت أكثر إقبالاً على الله بالصلاة والدعاء وتلاوة القرآن الكريم لكني لا أجد انفراجًا في حالي، وأراها تضيق عليَّ أكثر وأموري متعسرة.
فهل هذا دليل أن الله لم يقبل توبتي ودعائي؟
لقد تملكني الحزن والهم وأخشى أن يكون الله غير راض عني.
مرحبًا بك أيها السائل الكريم، وأشكرك على ثقتك الغالية التي منحتنا إياها بمشاركتك هذا البوح الصادق، وهذه المشاعر التي تنبع من قلب يرجو وجه الله ويخشى سخطه. أسأل الله العظيم أن يفرِّج كربك، ويشرح صدرك، ويقلب أحوالك إلى ما يرضيه عنك، وأن يجزيك خير الجزاء على صدقك وتوجهك إليه، وبعد...
فيا أخي العزيز المبارك، اعلم أولًا أن سؤالك هذا، وما فيه من خوف على القبول، وحزن على التقصير، وتطلع إلى مرضاة الله، هو في ذاته علامة حياة قلبك، ودليل على أن فيك خيرًا كثيرًا، وأن الله قد أكرمك بنعمة الشعور بالتقصير، وهي من أعظم النعم وأكرمها. فكم من الناس غارقون في الذنوب ولكنهم لا يشعرون! بينما أنت، رغم أنك تبت وأقبلت، لا تزال تخشى أن يكون الله ساخطًا عليك! وهذا، لعمري، مقام الأنبياء والصالحين.
التوبة الصادقة لا تُرد
ثق يقينًا أن الله لا يردُّ من أقبل إليه مخلصًا، فإن الله تعالى قال في كتابه الكريم: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ ٱلَّذِينَ أَسْرَفُوا۟ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا۟ مِن رَّحْمَةِ ٱللَّهِ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ﴾ [الزمر: 53].
فكيف يقال بعد هذا إن الله لم يقبل توبتك؟ بل إن هذه الآية وحدها تكفي لتُسكِّن قلبك؛ فالله لم يقل: يغفر بعض الذنوب، بل قال: ﴿ٱلذُّنُوبَ جَمِيعًا﴾، ولم يخاطب بها الأبرار؛ بل قال: ﴿ٱلَّذِينَ أَسْرَفُوا۟﴾، أي من بالغوا في الذنب!
وروي عن النبي ﷺ أنه قال: «التائب من الذنب كمن لا ذنب له» [رواه ابن ماجة]. وهذا يعني أن التوبة تمحو الذنب من جذوره، وتمسحه من صحيفة الأعمال كأن لم يكن.
بل أكثر من ذلك، أن الله جل جلاله لا يكتفي بالمغفرة، بل يبدل السيئات حسنات، كما قال: ﴿إِلَّا مَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَـٰلِحًا فَأُو۟لَـٰٓئِكَ يُبَدِّلُ ٱللَّهُ سَيِّـَٔاتِهِمْ حَسَنَـٰتٍ﴾ [الفرقان: 70].
فأنت، يا أخي، حين تتوب وتستغفر وتُقبل على ربك، فإنك تدخل في رحمة رب كريم، غني، عفو، يحب التوابين، ويفرح بتوبة عباده.
لماذا لم تنفرج الضائقة رغم التوبة؟
هنا أصل المسألة التي سألت عنها. ولعلها أعمق من مجرد: «هل الله غير راضٍ عني؟»، وإنما هي: «لماذا لا أرى أثر رجوعي إلى الله في تيسير أمري؟».
والجواب يتفرع على أمور:
1- التوبة لا تعني رفع البلاء فورًا
قد يظن بعض الناس أن التوبة «زِر سحري» نضغطه فتزول المصائب ويعمُّ الرخاء! ولكن الحقيقة أن البلاء ليس عقوبة دومًا؛ بل قد يكون البلاء تطهيرًا، أو ترقية، أو حفظًا من شر أعظم.
قال رسول الله ﷺ: «إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله تعالى إذا أحب قومًا ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط» [رواه الترمذي].
فقد تكون الضائقة التي أنت فيها الآن -على شدتها- أرحم بك من غفلة ناعمة، أو رخاء يجرك إلى ذنوبٍ أشد!
وقد قال الله -تعالى- عن نبيِّه أيوب عليه السلام: ﴿وأَيُّوبَ إذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ [الأنبياء: 83]. وقد كان أيوب نبيًّا، تقيًّا، وقدوة، ومع ذلك ابتُلي بالمرض والفقر سنوات طويلة، وكان لسانه دائم الذكر، وقلبه ساكنًا بالرضا.
فما الضيق الذي تمرُّ به الآن إلا امتحان لحبك لله، ولصدق رجوعك إليه.
2- أحيانًا يشتد البلاء بعد التوبة
نعم، فحين يتوب العبد ويرجع، فإن الله يكرمه بما هو أعظم من الرخاء: التمحيص والتطهير. قال الله تعالى: ﴿أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتْرَكُوٓا أَن يَقُولُوٓا ءَامَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ﴾ [العنكبوت: 2]. فالضيق الذي زاد عليك بعد توبتك، قد يكون فتنة اختبار، وليس علامة على عدم القبول؛ بل هو امتحان: هل ستثبت؟ هل ستظل على باب الله، أم سترجع إن لم تتحقق الأماني؟ وهنا، يستحضر القلب دعاء الصالحين: ﴿رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا﴾ [آل عمران: 8].
3- الله يخبئ لك الأفضل.. ولكن في وقته
الفرج قد يكون قريبًا جدًّا، ولكن الله يؤخره لحكمة. وتأمل قوله تعالى: ﴿أَمَّن يُجِيبُ ٱلْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ ٱلسُّوٓءَ﴾ [النمل: 62]، «إذا دعاه» لا تعني بالضرورة: فورًا. بل ربما يُجاب الدعاء بطريقةٍ مختلفة، أو يُدَّخر لحينٍ أنسب، أو يُعطى لك في صورةٍ غير التي طلبتها، ولكنها خير لك.
وقد قال رسول الله ﷺ: ما من مسلم يدعو الله بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث: إما أن تُعجَّل له دعوته، وإما أن يدخرها له في الآخرة، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها» [رواه أحمد]. فأنت على خير، في كل الأحوال.
لا تدع الحزن يسرق قلبك
الحزن الذي تشعر به، إن حملك على القرب من الله، فهو محمود. أما إن جعلك تظن السوء بربك، أو تشك في قبولك، فهنا يجب التوقف.
الله عز وجل يقول في القرآن: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾ [الأعراف: 156]، ويقول في الحديث القدسي: «أنا عند ظن عبدي بي، فليظن بي ما شاء» [متفق عليه].
فأي ظن تظنه الآن؟
إن ظننت أن الله لن يضيعك، وأن فرجه قريب، فهو كما تظن.
وإن ظننت أنه لم يقبلك، ولم يلتفت إليك، فأنت تحكم على الله بغير ما يليق به من كرم ورأفة!
فارجُ الله يا أخي، وكن واثقًا بأن يد العناية تمسك بك، وأن كل ما تمرُّ به ليس إلا إعدادًا وتمهيدًا لخير آت.
وختامًا أيها الحبيب، يا مَن رجعت إلى الله بقلب منكسر، والله إنك على خير، وإن التوبة التي تخرج من قلب منكوبٍ ولكنها صادقة، أحب إلى الله من دعاء الغافلين في الرخاء.
لا تستبطئ الفرج، ولا تجعل ضيق الحال حجابًا بينك وبين حسن الظن بالله. واجعل لسانك يلهج بهذا الدعاء دائمًا: «اللهم اجعلني ممن إذا أنعمت عليه شكَر، وإذا ابتليته صبَر، وإذا أذنب استغفَر، وإذا دعاه قلبه لبابك لم يُقصِه البعد، ولم تردُّه الخطيئة».
أسأل الله أن يجعل هذا البلاء بابًا لرحمة عظيمة، وأن يريك من لطفه ما تقر به عينك، ويرتاح به قلبك.
دمت بعين الله، في سعةٍ من رحمته، وأمانٍ من خشيته.