Consultation Image

الإستشارة
  • المستشار : أ. فتحي عبد الستار
  • القسم : إيمانية
  • التقييم :
  • عدد المشاهدات : eye 164
  • رقم الاستشارة : 1739
24/04/2025

أنا أمٌّ رزقني الله تعالى بطفلٍ مصابٍ بالشلل الدماغي، والحمد لله على ما رزقني به. وقد أخبرني الأطباء أن حالته دائمة، وأنه سيعيش طيلة حياته معتمدًا على غيره في جميع أموره، من الطعام واللباس إلى النظافة والحركة، وهو أمرٌ يؤلمني كأم، ويشقُّ على قلبي حين أنظر إليه ولا أملك له نفعًا إلا بالقدر القليل.

أنا أحمد الله على عطائه، وأؤمن بأن ما كتبه عليَّ خيرٌ، وأشعر في قلبي بشيء من الرضا، لكنني مع هذا أحتاج إلى ما يثبِّتني، ويقوي قلبي على الصبر، ويعينني على قبول قضاء الله بروحٍ مطمئنة لا فقط بكلمات اللسان.

ومما يزيد على قلبي الهمَّ والخوف، أنني كثيرًا ما أفكر في مصير ولدي إن أنا متُّ قبله، فمن سيرعاه؟ ومن سيحتمله ويحنو عليه كما أفعل؟ هذا الهاجس لا يفارقني، ويجعلني أعيش قلقًا مستمرًّا، رغم يقيني أن الله أرحم به مني، لكنه قلبُ الأم وضعفُ الإنسان.

أكثر ما يثقل عليّ أيضًا هو نظرات الشفقة من الناس، وتعليقاتهم التي تذكِّرني في كل لحظة بأن طفلي ليس كغيره، وأن حياتي ليست كحياة الآخرين. هذه النظرات تؤلمني أكثر من مرض ولدي أحيانًا، وأكاد أضعف أمامها.

سؤالي هو: كيف أضبط قلبي على هذا الابتلاء؟ كيف أربي نفسي على الرضى لا على التسليم الظاهري فقط؟ وكيف أتعامل مع نظرات الناس التي تؤذيني نفسيًّا؟ وكيف أقاوم هذا الخوف من أن أموت وأتركه وحده، لا سند له ولا من يرعاه؟ جزاكم الله عني خير الجزاء، ورفع قدركم، وبارك في علمكم.

الإجابة 24/04/2025

مرحبًا بكِ أيتها الأم المباركة، ورحمة الله وبركاته عليكِ، وأسأل الله أن يجزيكِ عن ابنك خير الجزاء، وأن يجعله لكِ بابًا إلى الجنَّة، وسببًا لرفع مقامكِ عنده في الدنيا والآخرة، وأن يبدلكِ عن كل دمعةٍ نزلت من عينيكِ، أنهارًا من النعيم في جنته.

 

أيتها الأمّ الصابرة المحتسبة، أعلم وأقدِّر أن ابتلاءك ليس في جسد ابنكِ فقط؛ بل في كل حركةٍ ونظرةٍ ونهارٍ وليلٍ يمرُّ عليكِ، وأنتِ تقومين على خدمته، متَّكئة على الله وحده، ولكن مع ذلك كله، يجب أن توقني تمام اليقين بأن هذا الابتلاء الشديد، وهذا العبء الثقيل، هو من أقرب أبواب الجنة إليكِ. فالله إذا أحبَّ عبدًا ابتلاه، لا ليُعذِّبه، ولكن ليقرِّبه إليه، ويرفعه إلى منزلة لا يبلغها بكثرة صلاةٍ ولا صيام.

 

قال رسول الله ﷺ: "إن عِظم الجزاء مع عِظم البلاء، وإن الله تعالى إذا أحبّ قومًا ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط" [رواه الترمذي].

 

فمن ذا الذي اختاركِ لهذا الطفل؟ ومن ذا الذي اختار هذا الطفل لكِ؟ إنه الله، فاستبشري برحمة الله مع ابتلائه، وبلطفه –سبحانه- مع قَدَره.

 

كيف تضبطين قلبك في هذا الابتلاء الثقيل؟

 

1- اعرفي مَن ابتلاك، فيهون عليكِ ما ابتلاكِ به:

 

فكلما ازداد يقينكِ بأن الله هو الذي قدَّر، وبأنه لا يكلف نفسًا إلا وسعها، استراح قلبكِ، واستكان بدنكِ. يقول جل وعلا: ﴿مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ ٱللَّهِ ۗ وَمَن يُؤْمِنۢ بِٱللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُۥ ۚ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ﴾ [التغابن: 11].

 

2- افهمي طبيعة الابتلاء:

 

إن كل ابتلاء إنما هو اختبارٌ في »ردِّ الفعل«؛ فالله لا يحاسبكِ على ما وقع، بل على ما تفعلينه بعد وقوعه، من صبر ورضا، أو جزع وسخط، يقول جل وعلا: ﴿ ولَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الخَوْفِ والْجُوعِ ونَقْصٍ مِّنَ الأَمْوَالِ والأَنفُسِ والثَّمَرَاتِ وبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾ [البقرة: 155].

 

3- الرضا يُغرَس ويُربَّى:

 

كل يومٍ، وأنت تنظرين لولدك، قولي في قلبكِ: يا رب، اجعلني من الراضين، واجعل ما وضعتني وولدي فيه سببًا لرضاك عني. واجعلي على لسانك دائمًا: رضيت يا رب والحمد والشكر لك، وستكونين بإذن الله من أهل: ﴿رَّضِيَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا۟ عَنْهُ﴾ [المائدة: 119].

 

كيف ترتقين من التسليم الظاهر إلى الرضا القلبي؟

 

إن الرضا –سيدتي الكريمة- ليس لحظةً عاطفية عابرة، بل مسارٌ مستمر. قال بعض السلف: الرضا هو سرور القلب بقضاء الرب.

 

أي أن القلب لا يكتفي أن يقول: "الحمد لله"، أو: "قدر الله وما شاء فعل"، بل يفرح أنه مع الله، حتى وإن تألَّم. فادعي ربك: "اللهم إني قد لا أفهم حكمة هذا البلاء، لكني أثق بك، فاملأ قلبي رضا وطمأنينة".

 

كيف تتعاملين مع نظرات الناس؟

 

أيتها الأمُّ المباركة، أعلم أن نظرات الشفقة من الناس تجرح وتؤلم، ولكن تذكَّري دومًا أن كثيرًا من هذه النظرات لا تصدر عن قصدٍ في الأذى، أو سوء طوية؛ بل عن عدم وعي وضعف في الفهم، فتلك النظرات -في أصلها– رحمة فطرية، يُحبُّ الله من عباده أن يتراحموا بها؛ لكنها تحتاج إلى تقويم وتفهيم.

 

وإن كان لا بد من كلمةٍ تُقال لهم، فقوليها بلطف، لا لتقنعيهم، بل لتحمي قلبك، قولي لهم مثلًا: "أقدِّر مشاعركم الطيبة، وأعلم أن نظراتكم وكلامكم نابع من الخير بداخلكم والرحمة بي والتعاطف معي، لكنني بحاجة إلى أن أُعامَل كأمٍّ قوية، لا كضحية. إن دعاءكم لي ولولدي، بظهر الغيب، أحب إليَّ من تلك النظرات وهذه الكلمات".

 

وذكِّريهم -إن كانوا قريبين منكِ- بأن من أصول المواساة أن يُقدَّم للمبتلى ما يحتاج، لا ما يراه غيره مناسبًا. قال رسول الله ﷺ: "من كان في حاجةِ أخيه، كان اللهُ في حاجته" [رواه البخاري].

 

كيف تقاومين الخوف من المستقبل؟

 

أختي الفاضلة، هذا السؤال لا يسأله إلا قلبٌ فيه من الرحمة ما يفوق الوصف؛ لكن الله الذي أودع فيكِ هذا الحب، أرحمُ منكِ به، وأقدرُ منكِ على رعايته. أنتِ اليوم سبب؛ لكنَّ الله هو الذي خلقه وصوره وقدَّر عليه ما قدَّر، وهو سبحانه لا ينسى عبده، فاطمئني إلى أنه الرحيم، اللطيف، الحافظ، وهو الرزَّاق، وهو الوكيل.

 

وأنصحك في هذه الجزئية بالتالي:

 

1- استحضري اسم الله "الوكيل":

 

أنتِ اليوم وكيلة عنه في الأرض، ترعينه وتأوينه، لكنَّ الوكيل الحقيقي هو الله.

 

من أسمائه سبحانه: الوكيل، أي: الكفيل، الضامن، الراعي، المدبِّر. ﴿وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِيلًا﴾ [النساء: 81].

 

فمن توكَّل على الله كفاه، ومن فوّض إليه أمره ما خاب. فاستودعي نفسك وولدك عنده سبحانه، وثقي أن الله لا تضيع عنده الودائع.

 

2- عيشي معه الحاضر ولا تستبِقي الأقدار:

 

كثيرٌ من القلق نابع من «العيش في المستقبل»؛ من تخيُّلاتٍ لا نعلم إن كانت ستقع أصلًا أم لا، ولا متى ستقع. فعيشي كل يوم بيومه، ولا تستهلكي قوتكِ وأعصابك في التفكير فيما ليس لك به علم ولا حُكم؛ بل اسألي الله أن يُبارك لكِ في كل لحظة مع ابنك، ويجعلها شاهدةً لكِ، لا عليكِ.

 

3- أعِدِّي الأسباب ودعي التدبير لله:

 

إن كان في قلبكِ خشية أن يضيع بعدك، فأعدِّي له ما استطعتِ من كفيل، أو وصية، أو جهة ترعاه، إن كان ذلك ممكنًا. لكن اجعلي هذا السعي في حدوده الواقعية، ولا تنقلي قلبكِ من التوكُّل إلى التعلُّق بالأسباب. فما لا تراه عينكِ اليوم، يُخبِّئه الله غدًا، من أسبابٍ لا تخطر على بالك، لكنه يعدُّها لكِ ولابنكِ بعلمه ورحمته ولطفه.

 

4- اجعلي الدعاء سلاحكِ وسلاحه:

 

رُبَّ دعاءٍ في جوف الليل، يُغني ولدكِ عن ألف راعٍ بعدكِ. ورُبَّ دمعةِ توكلٍ تنزل من عينكِ، يهيئ الله له من يرعاه ويكفله إن افتقدكِ يومًا. قولي: "اللهم إنك ربي وربه، لا تضيِّع من خلقت، ولا تهمل من أحببت، فكن له راعيًا ومعينًا، واملأ قلبه طمأنينة إذا افتقدني، وألهم من حوله حبًّا له ورعاية تُبرِّد عليه ألم الوحشة، وارزقه مِن بعدي من لا يهمله، ولا يؤذيه، ولا ينساه."

 

استثمري له بصلاحك:

 

هل تذكرين هذا المشهد العميق من سورة الكهف؟ حين بعث الله الخضر وموسى عليهما السلام ليقيما جدارًا كاد أن يسقط، فقال الله تعالى: ﴿وَأَمَّا ٱلْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَـٰمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِى ٱلْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُۥ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَـٰلِحًۭا﴾ [الكهف: 82]. أتدرين ما الذي حفظ هذين الغلامين اليتيمين ومالهما؟ ليست قوتهما، ولا صحتهما، بل صلاح أبيهما!

 

فبركة صلاح الوالدين تمتد إلى ما بعد موتهما، وتحفظ أبناءهما من حيث لا يحتسبون.

 

فما بالكِ إن كنتِ أُمًّا صالحة، قائمةً على بلاءٍ عظيم، تحتسبين وترجين، وتربِّين وتدعين؟

 

أيُّ بركةٍ أعظم من هذا؟ بل أيُّ حبل بينكِ وبين السماء أوثق من هذا الدعاء والعمل الصالح؟

 

وختامًا –أختي الفاضلة- إن الله أعطاكِ طفلًا لا يستطيع الحركة في الدنيا، لكنه يُحرِّك السماء ويفتح أبواب الرحمة لكِ وله. أعطاكِ ولدًا لا يعرف النطق؛ لكن صمته قد يكون أعظم ثوابًا من آلاف الكلمات عند ربِّ العالمين لك وله.

 

فلا تنظري لابنكِ بعين الحزن، بل بعين من قالت: "اللهم اجعلني ممن أحببت فابتليت."

 

كل لحظة تقضينها في خدمته هي عبادة، وكل دمعةٍ تسيل على خدّكِ هي صلاة، وكل تنهيدةٍ تخرج من صدركِ هي دعاء.

 

سيأتي اليوم الذي يرفعكِ فيه ابنكِ إلى الجنّة، وستُنادين على رؤوس الأشهاد: "هذه هي التي صبرت، ورضيت، واحتسبت."

 

أسأل الله أن يُفرغ عليكِ صبرًا، وأن يثبّتكِ على الإيمان والرضا، ويرزقكِ بركةً في القلب والبدن، وأن يجعل ابنكِ شفيعًا لكِ، وسببًا ترتقين به إلى أعلى الدرجات في الجنة. وتابعينا بأخبارك.

الرابط المختصر :