الإستشارة - المستشار : أ. فتحي عبد الستار
- القسم : إيمانية
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
160 - رقم الاستشارة : 1525
07/04/2025
أنا شاب في التاسعة والعشرين من عمري، منّ الله عليّ بصوت جميل في تلاوة القرآن الكريم، ووفقني للإمامة في المساجد، خاصة في شهر رمضان، حيث كان يحرص كثير من الناس على الصلاة خلفي، وانتشر اسمي في بلدتي وتوسم فيّ كثير من الشباب القدوة والالتزام. كنت أشعر دومًا بثقل الأمانة، وأحاول أن أكون عند حسن الظن، مخلصًا في عملي لا أبتغي به إلا وجه الله تعالى.
لكنني وقعت في موقف هزّني من داخلي، ولا أكاد أجد له مخرجًا حتى الآن.
في أحد الأيام، دُعيت إلى زفاف أحد أقاربي، وكان من النوع الذي غالبًا ما كنت أتجنبه بسبب ما فيه من مخالفات شرعية، لكن تحت ضغط العائلة، وتحت ستار “المجاملة” وحفاظًا على الودّ، حضرت.
وبينما كان الشباب يرقصون على أنغام صاخبة، دفعني بعض أقربائي بينهم على سبيل المزاح والبهجة، فتجاوبت معهم للحظات، وضعف قلبي، وسايرتهم، بل شاركتهم ببعض الحركات وأنا في غفلة عن نفسي!
ويا للأسف، كانت إحدى قريباتي قد التقطت مشاهد للعائلة تنشرها بشكل عفوي على إحدى منصات التواصل، وظهر اسمي ووجهي بينهم!
لم تمر ساعات، حتى بدأت أسمع التعليقات، والنظرات، والانتقادات الحادة من أهل البلدة، بعضهم بأسى، وبعضهم باستهزاء، وكأنني انهرت في أعين الجميع بلحظة.
أنا اليوم لا أنام من شدة الندم، أشعر وكأنني هدمت كل ما بنيته، وأصبحت أردد قول مريم عليها السلام:
"يا ليتني متّ قبل هذا وكنت نسيًا منسيًا".
هل ضاع كل شيء؟ كيف أكفّر عن هذه الزلة؟ وهل لي من عودة؟ أشعر أنني محطّم تمامًا.
مرحبًا بك أيها الأخ الكريم الطيب، مرحبًا بروحك التي لا تزال تلتمس النور في زمن تتكاثر فيه الظلمات، وقلبك الذي لم يُطفئه الزلل؛ بل زاده ألم الذنب توقًا إلى الصفاء. وأسأل الله تعالى أن يشرح صدرك، ويطَمئن قلبك، ويردَّك إليه ردًّا جميلًا، ويجعلك من التوَّابين المنيبين الذين يبدل الله سيئاتهم حسنات، ويكتبهم في سجل المقبولين. آمين يا رب العالمين، وبعد...
حين يكتب المؤمن عن ألمه، ويُشرك إخوانه في ندمه، ويبحث عن سبيل يرضي به ربه بعد زلَّة، فإنه لا يكون ساقطًا؛ بل واقفًا على عتبة التوبة، يطرق بابًا لا يُردُّ طارقُه.
وهذا الذي فعلتَه –أيها الكريم– هو عنوان صدقك مع الله، وبوابة رجوعك الصادق إليه. وما هذه الدمعة التي تنسكب من عينيك إلا مطر طاهر يغسل القلب، وما هذا الشعور بالحزن والخجل والندم إلا برهان على أن القلب ما زال حيًّا، نابضًا، موصولًا بسماء الرحمة، مشتاقًا إلى الطهارة.
هل تدري؟
رُبَّ زلَّة أحيت قلبًا، ورُبَّ دمعة صنعت وليًّا من أولياء الله.
فلا تحزن يا أخي، فإن ما مررتَ به -رغم مرارته- قد يكون أنفع لقلبك من ألف يوم لم تُذنب فيه.
لكن ومما ينبغي أن يُقال في هذا السياق، بل أن يُتفكر فيه بعين الإنصاف، أن ما فعلتَه –في ذاته– (قد) لا يكون مما يُعَدُّ من المحرَّمات القطعية، بل لعل بعضه لا يخرج عن دائرة المباحات أو ما يُسمَّى «اللعب واللهو البريء» الذي قد يتساهل فيه الناس في الأعراس والمناسبات، فإنك لم توضح في رسالتك تفاصيل ما قمت به مع الحضور في الحفل، وإن كان الأولى والأكمل لذي الهيبة والحيثية الدينية أن ينأى بنفسه عن تلك الأفعال التي قد تُقبل من غيره، فالناس –بطبعهم– ينظرون إليك كما اعتادوك أن تكون. فتراهم يرون فيك الإمام، المقرئ، الصالح الوقور، الذي لا ينزل عن مقام الجلال حتى في لهوه، فإن ضحكتَ ضحكةً عفوية، أو تحرَّكتَ حركةً طبيعية، قالوا: كيف يفعل هذا؟!
فأنت –في أعينهم– لست كغيرك، وما يُغتفر لغيرك لا يُغتفر لك، وما يُعدُّ زلَّة من الآخرين قد يُعدُّ سقطة في ميزانك، من غير تعمد ولا نية سوء!
وهذا –وإن كان مؤلمًا– إلا أنه شرف لك من جهة، وبيانٌ لعلو مقامك في نفوسهم، حتى إنهم باتوا لا يرضون لك إلا الأكمل، ولا يطيقون عليك أدنى انحراف عن سمت الوقار.
ولقد عبَّر العلماء عن هذا المعنى بدقة حين قالوا: «حسنات الأبرار سيئات المقربين»، أي أن ما يُعدّ مقبولًا أو حتى محمودًا من بعض الناس، قد يُعدُّ نقصًا في حق من عظَّم الله منزلته، وشرَّفه بالقرآن، وقرَّبه إلى منابر النور.
فلا تجعل من نقدهم لك سوطًا تجلد به روحك، بل افهمه على أنه حُبٌّ مشوبٌ بالتوقعات الطيبة، وخيبة أمل في مَن ظنوه ملاكًا، ولم يعلموا أن الإمام عبدٌ من عباد الله، يفرح ويحزن، ويضعف ويقوَى، ويُخطئ ويُصيب.
لكن، على أية حال، حتى لو أن ما فعلته كان فيه تجاوز شرعي أو ميل عن المباح إلى المكروه والحرام، فإنه ليس نهاية الطريق، بل لعله البداية الحقيقية. فإن كل من حمل القرآن في صدره، وكل من نادى الله باسمه في صلاة، وكل من قام الليل بين يدي ربه، إمامًا أو مأمومًا أو منفردًا، سيُختبَر؛ لا لأن الله يريد أن يُسقطه؛ بل لأن الله يريد أن يُطهره، أن يُقوِّيه، أن يُذكِّره بأنه عبد لا رب، وبأنه ضعيف مهما ظنه الناس أو ظنَّ نفسه قويًّا، وأنه مهما علت منزلته في أعين الخلق، لا يزال عبدًا محتاجًا للعفو والغفران.
وما أجمل ما قاله أحد السلف: «ربما فتح الله لك باب الطاعة، وما فتح لك باب القَبول، وربما قدَّر عليك الذنب، فكان سبب انكسارك وصدقك، ففتح لك باب القبول».
أتعرف الفرق؟
أن الله لا ينظر إلى صورتك، ولا إلى لحظة زللتَ فيها؛ بل إلى ما بعد الزلَّة... هل عُدت؟ هل بكيت؟ هل ندمت؟ هل خشيت أن يُغلق الباب في وجهك؟
إن فعلتَ، فقد دخلت دائرة القُرب.
أخي الغالي، من ذا الذي ما ساء قط؟ ومن له الحسنى فقط؟ من ذا الذي لم يُخطئ في لحظة ضعف، أو يرضخ لضغط عائلة أو مجاملة مجتمع؟
لقد فعلها صحابيٌّ جليل –حاطب بن أبي بلتعة– عندما أرسل كتابًا لمشركي قريش يحذرهم من قدوم جيش المسلمين إليهم، ومع ذلك قال النبي ﷺ: «إنه قد شهد بدرًا، وما يدريك؟ لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» [رواه البخاري]. فخطؤه لم يُخرجه من محبة الله؛ لأنه كان صادق التوبة.
بل حتى الذي شرب الخمر وأُقيم عليه الحد مرارًا، لم يسمح النبي ﷺ لأحد أن يعيِّره أو يحتقره، وقال: «لا تلعنوه، فوالله ما علمتُ إلا أنه يحب الله ورسوله» [رواه البخاري].
أترى؟ الحب الصادق يغلب الخطأ العابر.
فكيف بك، وأنت لم تتعمد المعصية، ولم تجاهر بها، بل دُفعت إليها دفعًا، ثم ندمت ندمًا عميقًا، وتمنَّيت لو لم تكن قد حضرتَ أصلًا؟ بل تمنَّيت الموت حياءً من الله!
تلك الدعوة التي قلتها من قلبك: «يا ليتني متُّ قبل هذا وكنت نسيًّا منسيًّا»، رجاء صادق في مغفرةٍ عظيمة. لقد نطقَتْ بها مَن هي أطهر منك، مريم العذراء، فخفف الله عنها، وثبَّتها، ورفع مقامها. وأنت –بإذن الله– سيتولى الله قلبك كما تولى قلبها.
نظرات الناس لا تقرر مصيرك عند الله
نعم، نظرات الناس مؤلمة، وكلامهم قد يكون جارحًا؛ لكن أتعرف ما الذي يهم؟
أنك عند الله لست كما يرونك، بل كما يعلمك هو.
هم رأوا مشهدًا؛ لكنهم لم يروا قلبك في الليل وهو يبكي، لم يسمعوا أنين توبتك، لم يشعروا بالحرقة التي كوت روحك، لم يروك وأنت تبكي وحدك؛ لكن الله رأى، وسمع، واطَّلع، وهو أحنُّ عليك من كل من يلومك.
ثم من قال إن الناس لا ينسون؟
الناس ينسون، ويشغلهم الزمن، لكن الله لا ينسى توبتك، ولا ينسى صِدقك، ولا ينسى دمعتك.
بل قد يجعل من هذا الحدث درسًا يُصلح به غيرك، ويرفعك به أكثر مما كنت.
لا تهجر محرابك:
أخي الكريم، أرجوك، لا تترك الإمامة، ولا تهجر محرابك، ولا تظن أن ما حصل يُسقطك عن مقامك. إن الناس بحاجة إلى قدوة تعرف الطريق، لا إلى صورة بلا أخطاء؛ بل لعلهم يحتاجونك أكثر اليوم؛ لأنك أصبحت أكثر إنسانية، وأعمق فهمًا، وأكثر واقعية.
إن القدوة من سائر البشر ليس الذي لا يُخطئ، بل مَن يُخطئ ثم يُعلِّمنا كيف نرجع إلى الله.
كن أنت هذا الشخص الذي لم ينهزم؛ بل رجع، وتطهَّر، وقام من جديد.
كيف تتعامل مع ما حصل؟
1- توكل على الله وتُب توبة نصوحًا:
اجلس بينك وبين ربك، وانطرح بكليتك، وقل: «اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت». ثم عش لحظة التوبة بكل تفاصيلها: دموع، خشوع، رجاء.
2- اطلب ممن نشر المقطع أن يحذفه تمامًا:
بلطف، وبأسلوب حكيم، قل لهم: «أستحيي من ربي، وأرجو منكم سترًا يُرضي الله عنكم». فإن الستر على المسلم عبادة، والنبي ﷺ قال: «من ستر مسلمًا ستره الله يوم القيامة» [رواه مسلم].
3- اجعل من هذا الحدث نقطة تحوُّل:
زد من عباداتك الخفية: صلاتك ليلًا، دعائك، تصدقك، اجعل لك بينك وبين الله أعمالًا لا يعلمها أحد، عوِّض بها تلك اللحظة العابرة.
4- واجِه ولا تهرب:
بعض الناس يختفون بعد الزلة؛ لكن الأقوياء يواجهون، ويُكمِلون الطريق، بثقة في الله، لا بأنفسهم. ومن أحسن ما تقوله لمن يعاتبك: «أنا بشر ضعيف، وقد عدت إلى ربي، وأرجو رحمته». ومن لا يرحم الناس، فلينتظر رحمة الله أن تربيه وترقِّقه.
وختامًا -أخي الحبيب المبارك- لا تيأس من روح الله. لا تظن أن الزلة أنهتْكَ؛ بل هي قد تكون أنقذتك.
لعل الله أراد أن يطهِّرك، أن يكسر فيك غرور الصورة، ليُعلي فيك مقام القلب. ولعل الله أحبَّ أن يسمع توبتك أكثر من استماع الناس لتلاوتك.
فقل له الآن: «يا رب، خذ بقلبي إليك، فإني ضعيف، وأنت القوي الرحيم».
وتذكَّر: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ ٱلَّذِينَ أَسْرَفُوا۟ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا۟ مِن رَّحْمَةِ ٱللَّهِ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعًا﴾ [الزمر: 53]، فهل بعد هذا الرجاء من رجاء؟! وهل بعد هذه البشرى من بشرى؟!
أسأل الله أن يشرح صدرك، ويجبر كسرك، ويعيدك أقوى، وأنقى، وأقرب إلى الله من ذي قبل، وأن يستخدمك في طاعته، ولا يستبدلك، وأن يرزقك قلوبًا تحبك كما أنت، وتدعو لك دون أن تدري. ولا تنسَ أننا هنا دومًا لأجلك في كل وقت. فتابعنا بأخبارك.