Consultation Image

الإستشارة
  • المستشار : أ. فتحي عبد الستار
  • القسم : إيمانية
  • التقييم :
  • عدد المشاهدات : eye 111
  • رقم الاستشارة : 1510
05/04/2025

أنا امرأة بمنتصف الثلاثينات، ملتزمة وأحاول قد ما بقدر ألتزم بطاعة الله، بس عندي مشكلة عم تشغل بالي. في عندي نفور كبير من الناس اللي بيقعوا بالمعاصي، وأحيانًا بحس حالي أفضل منهم بسبب التزامي، وحتى بذكر أخطائهم قدام الآخرين أو بحس بشماتة لما يتعرضوا لمصيبة.

أخاف يكون هذا الشعور ناتج عن كبر خفي جواتي، خصوصًا إني بحس إني أفضل منهم بسبب طاعتي. كيف فيني أتخلص من هذا الشعور؟

وكيف أتعامل مع الناس اللي بيرتكبوا المعاصي بدون ما أقع في التعيير والشماتة؟

وهل في أدلة من القرآن والسنة بتوجهني للطريق الصح في هالموضوع؟ جزاكم الله خير.

الإجابة 05/04/2025

أهلًا وسهلًا بكِ أختي الكريمة، وأسأل الله أن يبارك لكِ في إيمانكِ، ويزيدكِ هدى وتواضعًا، ويرزقكِ البصيرة النافذة، والقلب الليِّن، والنفس الراضية، ويجنبكِ مزالق الشيطان، ويثبتكِ على طاعته، وبعد...

 

فإن المؤمن الحقّ هو من يُحاسب نفسه قبل أن يُحاسب، ويزن أعماله بقلب متجرد خائف من الغرور والعجب. وما ذكرتِه من الشعور بالنفور من أهل المعاصي أو استشعار أنكِ أفضل منهم هو مما يُبتلى به بعض أهل الطاعة، فيحتاج إلى علاج دقيق حتى لا يتحوَّل إلى كبر خفيٍّ يضرُّ القلب والعمل.

 

ويجب أن تعلمي -أختي المباركة- أن ما يبلغه العبد في الطاعة من درجات ورفعة، إنما هو من فضل الله عليه وتوفيقه له، والعبد لا يمكن أن يستغني عن هذا التوفيق والفضل، ولو شاء الله لابتلاه بمعصية، ولولا لطفه وهدايته ما استطاع أن يكون على الطاعة لحظة واحدة. وقد قال الله تعالى لنبيه الكريم ﷺ، وهو أشرف الخلق وأعلاهم منزلة: ﴿وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا﴾ [الإسراء: 74]. وقال: ﴿مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ومَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ﴾ [النساء: 79]، فإذا كان النبي ﷺ -وهو المصطفى المختار- لا يثبُت إلا بتثبيت الله، فكيف بغيره؟! وكان ﷺ متيقنًا بذلك مقرًّا به، وكان يقول في دعائه الدائم: «يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ» [رواه الترمذي].

 

خطورة العجب والاستعلاء بالطاعة

 

من مداخل الشيطان أنه قد يُزيِّن للعبد طاعته حتى يُصيبه بالعجب والغرور، فيجعله ينظر إلى أهل المعاصي نظرة دونية، بل ربما يصل الأمر إلى احتقارهم أو الشماتة بهم.

 

وقال ابن القيم رحمه الله: «إن تعييرك لأخيك بذنبه أعظم إثمًا وأشد ذنبًا من المعصية ذاتها؛ لأن ذلك يحمل في طياته الكبر والغرور بالطاعة، ويعبر عن تزكية النفس». وقد نهى الله -عز وجل- عن تزكية النفس -أي مدحها- فقال: ﴿فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى﴾ [النجم: 32].

 

والعجب بالطاعة قد يكون سببًا في إحباط العمل، فقد قال رسول الله ﷺ: «ثَلاثٌ مُهْلِكَاتٌ: شُحٌّ مُطَاعٌ، وَهَوًى مُتَّبَعٌ، وَإِعْجَابُ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ» [رواه البيهقي]. فالذي يعجب بعمله، قد يحبطه بكبريائه؛ لأنه ينسب الفضل لنفسه، وينسى أن التوفيق كله من الله.

 

بل إن النبي ﷺ حذّر من الغرور بالعمل والإعجاب به، حتى ولو كان العمل ظاهره صالحًا، فقال: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ» [متفق عليه]. وهذا لأن أعمال القلوب أخطر من أعمال الجوارح، والنية قد تفسد العمل ولو كان ظاهره حسنًا.

 

كيف تتعاملين مع أهل المعاصي؟

 

1- التذكّر الدائم بأن الهداية بيد الله وحده:

 

إن الله هو الذي يهدي من يشاء، ولو شاء لقلّب قلبكِ كما قلّب قلوب العصاة، كما قال تعالى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ﴾ [الأنفال: 24]. فلا أحد يملك الطاعة لنفسه، ولا أحد يضمن أن يبقى على الاستقامة، فالقلوب بين أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء.

 

2- الدعاء لهم:

 

بدلًا من النفور منهم، أو تعييرهم، أو التعالي عليهم، ادعي لهم بالهداية، وتأمِّلي أن النبي ﷺ كان يدعو للكفار الذين حاربوه، فقال: «اللهم اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون» [رواه البخاري]. فإن كان هذا حاله مع أعدائه، فكيف بأهل المعاصي من المسلمين؟!

 

3- الرحمة واللين:

 

قال الله عز وجل: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ولَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ واسْتَغْفِرْ لَهُمْ وشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ﴾ [آل عمران: 159]. وقال: ﴿ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ﴾ [النحل: 125]. فالنفور والاشمئزاز من أهل المعاصي قد يُنَفّرهم أكثر، أما الرفق فهو سبيل الهداية. وقد قال النبي ﷺ: «ما كان الرفق في شيء إلا زانه، وما نُزع من شيء إلا شانه» [رواه مسلم].

 

4- تذكَّر أن الذنب قد يكون دواءً للمذنب:

 

قد يقع العبد في معصية تكون سببًا في انكساره وخضوعه لله، فيتوب توبة نصوحًا، فيصبح أقرب إلى الله ممن لم يذنب. كما قال ابن عطاء الله السكندري: «رب معصية أورثت ذُلًّا وانكسارًا، خير من طاعة أورثت عزًّا واستكبارًا». فكم من شخص وقع في الذنب، فجعله ذلك يطرق باب التوبة بدموع الندم والاستغفار.

 

5- تذكَّر أن التوبة تجبُّ ما قبلها:

 

من وقع في المعصية ثم تاب، فهو عند الله كأنه لم يذنب، بل يبدل الله سيئاته حسنات، كما وعد سبحانه: ﴿إلا مَن تَابَ وآمَنَ وعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾ [الفرقان: 70]. كما روي عن النبي ﷺ: «التائب من الذنب كمن لا ذنب له» [رواه ابن ماجة]؛ فلا يجوز احتقار التائب؛ لأنه أصبح في مقام جديد عند الله.

 

درسان من القرآن والسنة

 

- تأمّلي موقف يوسف عليه السلام، عندما انتصر على إخوته الذين ظلموه، فلم يعاتبهم، بل قال: ﴿لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ﴾ [يوسف: 92]. وهذا قمة التواضع والمسامحة.

 

- تأملي واقعة المرأة التي زنت على عهد النبي ﷺ، فلمَّا أقيم عليها الحد، قال ﷺ: «لقد تابت توبةً لو قُسِّمَتْ على أهل المدينة لوسِعَتْهم» [رواه مسلم]. فلم يقل إنها زانية، بل ركَّز على توبتها، وهذا درس لنا في عدم التعيير.

 

وختامًا -أختي الكريمة- إن الشيطان يُزيِّن للإنسان الإعجاب بنفسه، ليحبط عمله، فلا تدعي له مدخلًا إلى قلبكِ، بل اجعلي التواضع شعاركِ، واذكري دائمًا أن الله هو المتفضل عليكِ بالطاعة. واسألي الله الثبات، فلا أحد في مأمن من الفتنة.

 

أسأل الله أن يرزقكِ قلبًا سليمًا، ونفسًا متواضعة، وأن يجعلكِ سببًا لهداية غيركِ، وأن يجمعنا جميعًا في الفردوس الأعلى برحمته.

الرابط المختصر :