الإستشارة - المستشار : أ. فتحي عبد الستار
- القسم : إيمانية
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
171 - رقم الاستشارة : 1513
06/04/2025
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أنا أم حريصة على تربية أولادي تربية إيمانية متوازنة، وأشعر بمسؤولية كبيرة تجاههم خاصة في ظل الانفتاح والانحرافات الفكرية والسلوكية اللي نشوفها اليوم.
مؤخرًا صار شيء قلقني وخلى بالي مشغول؛ ابني، وهو شاب ملتزم، حضر حفل زواج لأحد أقاربنا وظهر في مقطع فيديو وهو يشارك الرجال في رقصة تراثية بالسيف، اللي تكون عادة في مناسبات الأفراح.
استنكرت عليه هذا التصرف وقلت له إنه مو مناسب للملتزمين ولا يليق بصورة الوقار المفروض على المتدين. لكن قال لي إن اللي سواه مو حرام وإن الدين ما يمنع الفرح أو التفاعل مع الأهل والمجتمع في حدود المباح.
بصراحة، أنا محتارة:
هل أنا غلطانة في إنكاري؟
وهل الفرح واللهو المباح يتعارض مع صورة التدين؟
وهل المتدين لازم يكون صارم ويبتعد عن المظاهر الطبيعية مثل الفرح والمزاح؟
وهل نلوم الشخص اللي يفرح في وقتنا هذا، خاصة مع الابتلاءات اللي تمر بها الأمة؟
أتمنى منكم توجيهي، جزاكم الله خير وبارك في جهودكم.
وعليك السلام ورحمة الله وبركاته أختنا الفاضلة، ونشكر لك تواصلك معنا، ونسأل الله تعالى أن يبارك فيك، ويجزيك خير الجزاء على غيرتك الصادقة، وحرصك المشكور على تنشئة أبنائك تنشئة إيمانية متزنة، وأن يقرَّ عينك بهم في الدنيا والآخرة، وبعد...
فما سألتِ عنه يمسُّ واقعًا مهمًّا تعيشه بيوتنا ومجتمعاتنا، ويُظهر الحاجة الملحَّة لإعادة فهمنا للدين كما أنزله الله: دينًا متَّزنًا شاملًا، لا يُصادم الفطرة، ولا يُجافي الطبيعة البشرية، بل يوجهها ويهذبها ويضبطها.
وسنعرض إجابتنا على ضوء ما طرحته في رسالتك، سؤالًا سؤالًا، مراعاة لحرصك، وتقديرًا لحجم المسؤولية التي تشعرين بها، نسأل الله أن يسددنا في القول ويجعل في كلامنا النفع والقبول.
هل الفرح واللهو المباح ينافيان التدين؟
الإسلام لا يُصادم الفرح، بل يُقرُّه ويأمر به في موضعه. والفرح المباح إذا نُوي به وجه الله، وصحبته نية طيبة، أصبح عبادة يُثاب المرء عليها، لا مجرد عادة. قال الله تعالى: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ﴾ [الأعراف: 32]، وقد أقر النبي ﷺ وصدَّق على قول سلمان لأبي الدرداء، رضي الله عنهما: «إن لربك عليك حقًّا، ولنفسك عليك حقًّا، ولأهلك عليك حقًّا، فأعطِ كل ذي حقٍّ حقه» [رواه البخاري].
وكان النبي ﷺ يُظهر الفرح في موضعه، ويمكِّن غيره منه، وقد أذن بالضرب بالدف في الأعياد، وأقرَّ لعب الحبشة في المسجد، وجعل عائشة -رضي الله عنها- تنظر إليهم دون نكير.
فالمزاح والفرح والاحتفال ليس مناقضًا للتدين، بل من تمام الإنسانية التي جاء الإسلام ليهذبها لا ليطمسها.
وعليه؛ فإن مشاركة الشاب في رقصة تراثية رجولية خالية من المحظورات الشرعية لا يُعد مما يُستنكَر؛ بل هو من العادات الاجتماعية التي تختلف من بلد إلى بلد، ولا تُعد خروجًا عن الدين، ما دامت منضبطة بضوابطه.
هل على المتدين أن يعيش بوقار وصرامة دائمين؟
أختي الكريمة، إن الوقار ليس مرادفًا للجمود، والهيبة لا تعني التجهم. فالنبي ﷺ كان يمازح، ويضحك، ويداعب، ويشارك في الفرح، ومع ذلك لم ينقص ذلك من هيبته شيئًا، بل زاد الناس محبة له وقربًا منه، حتى قال أنس رضي الله عنه: «خدمتُ النبي ﷺ عشر سنين، فما قال لي أُف قط» [رواه مسلم].
ومن صور التشدد الخاطئة المنتشرة: اعتبار أن المتدين يجب أن يكون دائم الصمت والعبوس والانقطاع عن مشاعر الفرح، وهذا يخالف هديه ﷺ، ويجافي طبيعته الرحيمة الرقيقة.
إن الدين لا يُربينا على صورة واحدة جامدة، بل يُعلمنا الاعتدال في السلوك، والتوازن في العاطفة، ويمنحنا مساحة واسعة للتعبير عن المشاعر بوسائل مشروعة.
هل يجب عدم الفرح بسبب ما تتعرض له الأمة من مآسٍ؟
الجواب بكل وضوح وصراحة: لا.
إن الإسلام لم يجعل أحزان الأمة سببًا لتعطيل الفرح المشروع، ولا أمر بكتم السرور الذي يُراد به إدخال السعادة على الأهل والأقارب.
وقد عاش النبي ﷺ وأصحابه في ظل جهاد مستمر ومؤامرات دائمة، ولم يمنعهم ذلك من إقامة الأعراس، ومشاهدة اللعب، والتمتع بالمباحات؛ بل كانوا يحتسبون كل ذلك عند الله عز وجل.
فليس من الحكمة أن نُحمِّل أولادنا شعورًا بالذنب كلما فرحوا، ولا أن نصوِّر الفرح المباح على أنه تقصير في حق الأمة؛ لأن الفرح عبادة في مكانه، والحزن إذا خرج عن حدِّه صار سخطًا، والله لا يحب أن يكلِّف المرء منا نفسه ما لم يكلِّفه الله به.
كيف نوازن بين الغيرة على الدين واحتواء تصرفات الأبناء؟
هنا أصل تربوي مهم: «الحرص لا يعني التشديد، والنصح لا يعني الضغط». وقد يكون التوجيه القاسي سببًا في تنفير الأولاد من الدين، بينما المطلوب أن نحبِّبهم فيه، ونُقرِّب إليهم صورة المتدين الحقيقي، لا الصارم المتجهم.
ينبغي أن نربط أولادنا بالدين من خلال رحمته، وسعته، وتوازنه، لا من خلال صور مغلوطة عنه، أو أعراف متوارثة اختلطت بالدين حتى غطت عليه.
كما أن من الحكمة أن يُراعى التدرّج في التربية، وأن يُقبَل من الشاب ما لا يُقبل من الشيخ، وأن تُترك له مساحة يتحرك فيها دون أن يشعر بأنه مراقَب أو محاصر.
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: «حدِّثوا الناس بما يعرفون، ودعوا ما يُنكرون، أتحبّون أن يُكذَّب الله ورسوله؟» [رواه البخاري]، أي: خاطبوا الناس بما تطيقه عقولهم وتفهمه نفوسهم، ولا تصادموهم بما لم يُهَيَّؤوا له بعد، فينفروا من الدين.
أختي الفاضلة، إن الإسلام دين واقعي وسطي، لا يغالي في الترف، ولا يُغرق في الكبت، وإنما يُبيح الفرح ويضبطه، ويُجوِّز اللهو ويهذبه، ويجعل لكل حالٍ حقها، ولكل طرفٍ حقه. قال تعالى: ﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَـٰكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ [البقرة: 143]، وقال ﷺ: «إن الدين يسر، ولن يُشادَّ الدين أحدٌ إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا» [رواه البخاري].
فالفرح جزء من الدين، واللهو المباح إذا نُوي به وجه الله يكون قربى، ومشاركة الشاب في الفرح لا تنافي التديُّن؛ بل قد تكون سببًا في تقريب الناس من الدين إذا رأوه متَّزنًا، رحيمًا، واقعيًّا.
وختامًا -أختي الكريمة- إن ما فعله ولدك لا يُعد خطأ شرعيًّا؛ بل هو داخل في دائرة المباحات، ما دام قد التزم الحدود الشرعية. وأعلم أن إنكارك عليه كان بدافع الحب والغيرة، لكن من المهم مراجعة الموقف في ضوء النصوص الشرعية.
أوصيكِ بأن تُشجّعيه على إبراز جمال الإسلام من خلال التوازن في شخصيته، لا من خلال صورة نمطية متشددة.
وأذكِّرك بأن احتواء الشباب وتفهّم تصرفاتهم طريقة فعَّالة لترسيخ التدين الحقيقي في نفوسهم.
نسأل الله تعالى أن يُصلح لك أولادك، وأن يُبارك فيك، ويشرح صدرك لما فيه خيرك وخيرهم، وأن يرزقنا جميعًا الفقه في الدين، والبصيرة في التربية، والرحمة في الدعوة، وصلَّى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.