الإستشارة - المستشار : د. أميمة السيد
- القسم : الأطفال
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
142 - رقم الاستشارة : 2242
31/07/2025
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
أنا أم لفتاة عمرها عشر سنوات، وأودّ عرض مشكلة تؤرقني منذ سنوات على حضرتكم، لعلّي أجد لديكم توجيهًا تربويًّا ونفسيًّا سديدًا يعينني على احتواء ابنتي وفهمها.
ابنتي من يومها خجولة جدًا جدًا، ومن صغرها كانت تتجنب النظر في أعين الناس، وتتشبث بي إذا كلمها أحد، حتى لو كان بكلمة بسيطة، وتبدأ في البكاء أو تحمرّ بشدة في وجهها وتدفن رأسها في حضني، وأحيانًا تختبئ خلف ظهري أو تتشبث بثيابي ولا تنطق بكلمة.
أما الآن، وبعد أن أتمّت العاشرة، فلم يتغير هذا السلوك كثيرًا، بل أحيانًا يزداد. فعندما يزورنا أحد من الأقارب أو الجيران، تهرب سريعًا إلى غرفتها، وتغلق الباب، وقد تبقى فيها اليوم كله دون أن تخرج ولو لإلقاء السلام، وأحيانًا تختبئ تحت الطاولة أو وراء الحائط أو الستارة لو لم تتمكن من الهرب للغرفة، فقط لتتجنّب أن يراها أحد أو يتحدث إليها، وخصوصًا لو لم أكن بجوارها في اللحظة نفسها.
حتى في المدرسة، ورغم اجتهادها الدراسي، لا تشارك في الأنشطة ولا ترفع يدها للإجابة، وتخجل أن تسأل المعلمة، بل أحيانًا تبكي إذا وجدت نفسها محطّ أنظار أحد.
أنا قلبي يتقطع عليها، لأني أشعر أنها حبيسة هذا الخجل، وكأنها سجينة داخله، لا تستطيع التحرر منه، وهذا يجعلني قلقة على مستقبلها الاجتماعي والنفسي. أحيانًا أُلام من الأهل على دلالي لها الزائد، وأحيانًا أخرى يقولون إنها تحتاج لتعرض على مختص نفسي. فهل حالتها طبيعية وتندرج تحت "الخجل العادي"، أم أنها تجاوزت الحدود وأصبحت مشكلة تستدعي تدخلًا جادًّا؟
وأرجو أن توجهيني كيف أتعامل معها دون أن أؤذي مشاعرها أو أزيد من حساسية شخصيتها.
جزاكم الله خيرًا.
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته أيتها الأم الطيبة، وأهلا بك غاليتي..
دعيني أبدأ حديثي بتطمينك: بأن ما تمرّ به ابنتك ليس نادرًا، ولا يدل بالضرورة على مرض نفسي، ولكنه بالفعل يحتاج إلى فهم عميق واحتواء تربوي واعٍ حتى لا تتفاقم حالتها مع الوقت.
ما وصفتِه من سلوك ابنتك يدخل في الإطار المعروف في علم النفس بـ"القلق الاجتماعي عند الأطفال" Social Anxiety in Children، وهو شكل من أشكال القلق يظهر في صورة خجل شديد، وتجنب للمواقف الاجتماعية، وردود فعل بدنية ونفسية حادة مثل البكاء، احمرار الوجه، الانسحاب، والاختباء. وهذه الأعراض تُصنّف ضمن نمط الشخصية الحساسة أو ما يسمى أحيانًا بـ Highly Sensitive Child.
ولا بد هنا من التفرقة بين الخجل الطبيعي، الذي يعد سمة من سمات بعض الأطفال، ويزول بالتدرج مع دعم الأسرة، وبين الانسحاب الاجتماعي Social Withdrawal، والذي إذا استمر بهذا النمط الذي وصفته (خاصة مع تجنب دائم وممتد للمواقف، وبكاء واختباء وانعزال تام)، فقد يتحول إلى نمط مَرَضي يحتاج إلى تدخل سلوكي ونفسي متخصص.
وما يساعدنا على ضبط الرؤية أيضًا هو مدة استمرار هذه الحالة، وحدّتها، وتأثيرها على الأداء المدرسي والاجتماعي. فإن كانت الطفلة تؤدي واجباتها المدرسية بشكل جيد، وتملك صديقة واحدة على الأقل، أو تتواصل مع أحد من الأقارب أو الأشقاء بشكل سوي داخل البيت، فإن هذا مؤشر إيجابي يدل على أن الخجل لم يتحول بعد إلى اضطراب.
* إذًا فماذا هنا على الأم أن تفعل؟
1- كوني المرفأ الآمن لابنتك، لا تظهري الانزعاج من تصرفاتها، بل طمئنيها واحتضنيها عند المواقف التي تشعر فيها بالخوف أو الانسحاب؛ فالطفل الخجول غالبًا ما يملك عالمًا داخليًّا مضطربًا ويحتاج لمَن يمنحه الأمان لا الضغط.
٢- أنصحك بأن تتبعي معها أسلوب نفسي سلوكي فعال، ألا وهو التدرج في التعريض الآمن (Graduated Exposure)
ويُقصد به تعريض الطفل تدريجيًّا لمواقف اجتماعية بسيطة مع تقديم دعم وتشجيع في كل خطوة، مثل أن تلقي السلام على ضيفة أمامها أولًا، ثم تطلبي منها أن تلوّح فقط، ثم أن تقول "مرحبًا"، دون أن تُجبريها، بل تُكافئي فقط كل تقدم ولو صغيرًا.
3- استخدام أسلوب "نمذجة السلوك" Modeling
بمعنى أن تكوني أنتِ النموذج والقدوة في التفاعل الاجتماعي أمامها، وأظهري لها كيف تتحدثين مع الآخرين بلطف وهدوء، واسمحي لها أن ترى كيف يمكن لشخص هادئ أن يكون محبوبًا ومطمئنًا في الحوارات.
4- من الجيد تشجيعها على التعبير بالرسم أو الكتابة:
فالطفلة الحساسة عادةً ما تجد صعوبة في التعبير اللفظي، ولكنها قد تُبدع في التعبير الرمزي، فامنحيها أدوات وأوقاتًا لتعبّر عن مشاعرها بطريقتها.
5- كما أوصيك بأن تتجنبي وصفها بالخجولة أمام الناس:
فهذا قد يرسّخ في ذهنها صورة سلبية عن ذاتها ويزيد من شعورها بالاختلاف والحرج.
بل تحدثي عنها بصفات إيجابية، مثل: "هي تحب الهدوء"، "هي رقيقة ومراقبة جيدة"، "تأخذ وقتها في التفاعل"... وهكذا.
6- يمكنك أيضا اللجوء إلى مختص نفسي تربوي عند الحاجة:
إذا لاحظتِ أن خجلها يمنعها من أداء واجباتها الحياتية اليومية، أو يمنعها من التواصل حتى مع صديقة أو معلمة، فحينها يُستحسن عرضها على مختصة في العلاج السلوكي المعرفي للأطفال، حيث توجد برامج فعالة ومُجربة لتحسين مهاراتها الاجتماعية بشكل تدريجي دون ضغط.
* همسة أخيرة:
قال رسول الله ﷺ: "إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله"، فما أحوج هذه الطفلة إلى رفقك، وصبرك، واحتضانك العاطفي في كل محطة من رحلتها.
وتذكّري أن من صفات المؤمن الحياء، وقد قال رسول الله ﷺ: "الحياء لا يأتي إلا بخير"، فلا تُحمّلي ابنتك خجلها كأنه عيب، بل كوني معها لتعلّميها كيف تتوازن بين حيائها وثقتها بنفسها.
أسأل الله أن يمنحك الحكمة والسكينة في تربيتك، وأن يجعل ابنتك من الذاكرات، الصالحات، القويات بأخلاقهن".