Consultation Image

الإستشارة
  • المستشار : أ. فتحي عبد الستار
  • القسم : إيمانية
  • التقييم :
  • عدد المشاهدات : eye 49
  • رقم الاستشارة : 1863
08/05/2025

السلام عليكم. منَّ الله عليَّ هذا العام برزقٍ طيّب أتاح لي أن أؤدي فريضة الحج، وهي نعمة طالما دعوت الله أن يرزقني إياها. الحمد لله، بدأت الترتيبات المادية من تجهيز الأوراق وتوفير التكاليف اللازمة، لكنني في المقابل أشعر أن الجانب الأهم -وهو الإعداد النفسي والإيماني-ـ لا زال ناقصًا عندي، بل إنني أشعر بقلق من ألا أُحسن استقبال هذه الفريضة العظيمة بما يليق بها من تعظيم وتطهّر وتهيئة قلبية.

أنا أُدرك أن الحج ليس مجرد رحلة بل هو فرصة نادرة لمغفرة الذنوب وتجديد العهد مع الله.

فكيف أستعد للحج من الناحية النفسية والروحية والإيمانية؟

ما الذي يُمكنني فعله لأُهيّئ قلبي وعقلي لاستقبال هذه الفريضة العظيمة كما ينبغي؟

الإجابة 08/05/2025

مرحبًا بك أخي الكريم، وجزاك الله خيرًا على تواصلك معنا، وبارك فيك على هذه الروح الطيبة، وهذه النية الصادقة، وأسأل الله تعالى أن يتمَّ عليك هذه النعمة، وأن يبلغك بيتَه الحرام وأنت في أتمِّ العافية، وأن يرزقك حجًّا مبرورًا، وسعيًا مشكورًا، وذنبًا مغفورًا، وأن يجعل حجك بداية جديدة لعهدٍ وثيق مع ربِّك، يُرضيه ويُرضيك، ويقودك إلى مزيدٍ من النور والثبات، وبعد...

 

فما أجمل هذا التوازن بين الشكر والخوف، بين الفرح والوجل، بين الرجاء والرهبة!

 

فأنت -أيها الحبيب الكريم- على أعتاب أحد أعظم المناسك وأجلِّ الطاعات، وقد بدأت الرحلةَ بالنية، والنية هي المَنفذ الأوَّل إلى القَبول، وقد قال رسول الله ﷺ: «إنما الأعمال بالنيَّات، وإنما لكلِّ امرئٍ ما نوى» [متفق عليه]. ومن نوى الحج ابتغاء وجه الله، فقد فتح الله له باب التوفيق.

 

والآن أضع بين يديك –مستعينًا بالله- خطوات للإعداد النفسي والإيماني للحج، بما يُطمئن قلبك، ويقوِّي روحك، ويجعلك تدخل إلى هذه الفريضة بطمأنينة وسكينة، وخشوع يليق بمقام اللقاء.

 

استحضار عظمة المقصود قبل عظمة المقصد:

 

اعلم أن الاستعداد النفسي للحج لا يبدأ من تهيئة المشاعر نحو الأماكن؛ بل من توجيه القلب نحو ربِّ الأماكن.

 

فالمُراد بالحج ليس أن تزور البيت الحرام فقط؛ بل أن تذهب بقلبك إلى الله، متجردًا من الدنيا، حاملاً معك ذنوبك القديمة، وعزمك الجديد.

 

فابدأ هذه المرحلة بسؤال نفسك: "لماذا أريد أن أحج؟ ما الذي أبتغيه من هذه الرحلة المباركة، واستحضر نيات: طاعة الله بأداء ما افترض عليك، مخلصًا له النية، دون رياء أو فخر، ثم التوبة، وطلب المغفرة، والعودة كما ولدتك أمك مبرأ من الخطايا، كما وعدك النبي ﷺ، ومشاركة المسلمين في هذا المؤتمر السنوي الكبير، في كنف الله عز وجل، وفي رحاب بيته المحرم.

 

تجديد التوبة ومحاسبة النفس قبل الرحلة

 

قبل أن تُقلع بك مركبتك إلى بلاد الحرمين، دع روحك تُقلع بك أولاً إلى باب التوبة. فالحج هو وعد بالمغفرة، كما في الحديث: «من حجَّ فلم يرفث ولم يفسق، رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمّه» [متفق عليه]. ولكن لهذا الوعد مدخل، وهو صدق التوبة قبل الذهاب.

 

خُذ خلوةً صادقة، استعرض فيها ذنوبك الماضية، قل لربك فيها: "يا رب، جئت أزورك بقلب عليل، فداوني. جئتك مثقلاً بأوزاري، فأعتقني. ها أنا عبدك المذنب بين يديك، لا أملك إلا دمعًا وخوفًا، فاجعلها بداية الصفح لا الحساب".

 

وقد قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا﴾ [التحريم: 8]، والتوبة النصوح هي التي تمحو الذنب وتطهّر الطريق وتفتح باب القبول.

 

استشعار شرف الاصطفاء

 

من بين مليارات المسلمين، اختارك الله، نعم، اختارك! فلا ترى في الأمر صدفة، ولا تظنه مجرّد توفيق مادي. قال تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَىٰ دَارِ السَّلَامِ﴾ [يونس: 25].

 

وفي الحج، لبَّيت نداءً قديمًا، بدأ مع إبراهيم عليه السلام، واستجاب له من كتب الله له السعادة. قال رسول الله ﷺ: «الحُجّاج والعُمّار وفدُ الله، دعاهم فأجابوه، وسألوه فأعطاهم» [رواه ابن ماجة]. فكن واعيًا لهذا الاصطفاء، ممتنًّا له، وقل في نفسك دائمًا: "ما كنتُ لأهتدي لهذا، لولا أن هداني الله."

 

تدريب القلب على الذِّكر والتَّسليم

 

من أعظم أبواب التهيئة القلبية للحج: التدرُّب على كثرة الذكر، خصوصًا في المواقف التي ستتكرر أثناء المناسك:

 

- "لبيك اللهم لبيك..." اجعلها وردًا يوميًّا من الآن، وردِّدها بقلبك قبل لسانك، حتى إذا نطقتها هناك، نطقتها بروح مُشتاقة، لا بلسان غافل.

 

- تدرَّب على الصبر، واعزم عليه؛ لأن الحج مدرسة في تحمّل الزحام والمشقّة، وقد قال النبي ﷺ: «العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة» [رواه البخاري]. وهذا "الحج المبرور" لا يكون إلا بصبر وتغافل وتسليم.

 

- تعوَّد أن تدعو: "اللهم سلِّم تسليمًا"، كلما شعرت بالضيق أو الفتور أو الضجر أو القلق.

 

- لا تفتر عن الدعاء: "اللهم اجعل حجي مبرورًا، وسعيي مشكورًا، وذنبي مغفورًا، وأجري موفورًا".

 

وصايا قبل السفر:

 

1- أدِّ الحقوق إلى أصحابها، وسامِح واطلب المسامحة، وسلِّم ما عندك من أمانات، أو اذكر أو اكتب وصية بها.

 

2- اطلب رضا والديك ودعاءهم، واترك لأهلك ما يعينهم على قضاء حوائجهم في غيابك.

 

3- اكتب وصيتك الشرعية، واتركها أمانة عند من تثق بهم.

 

4- تعلم أحكام الشعائر والمناسك، بأركانها وواجباتها وسننها، مع استشعار المعاني الإيمانية لكل منها؛ حتى تحوز أكبر الفضل والثواب. واحمل كتابًا صغيرًا أو ملخصًا في بيان ذلك.

 

5- اكتب دعواتك حتى لا تنساها، ليس فقط لنفسك، بل لكل من تحب، فإنك ستزور أماكن تُستجاب فيها الدعوات بإذن الله.

 

6- نظِّف قلبك من الغلِّ والحقد والحسد؛ فالحج لقاء بينك وبين الله، لا يليق به إلا قلبٌ سليم: ﴿يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ [الشعراء: 88-89].

 

وختامًا -أيها المبارك- لقد دعوتَ الله أن يُكرمك بالحج، فأجابك، فأحسن الظن، وثق أن من دلَّك عليه، ووفقك له، لن يُضيعك، ومن أوصلك بفضله، لن يمنعك بركته.

 

فامضِ بقلبٍ خاشع، ولسانٍ ذاكر، وعينٍ باكية، واثقًا بأن الله كريم، يقبل القليل ويضاعفه، ويرحم الزلات، ويجبر الكسر، ويفتح أبواب التوبة لعباده.

 

بلَّغك الله بيته الحرام، وشرَّفك بخدمته، وأسكنك في جواره، وجعل حجك هذا حجًّا مبرورًا، تُغسل فيه ذنوبك، وتُطهَّر فيه روحك، ويُفتح لك بعده باب جديد في حياتك للقرب من الله، والبقاء معه أبدًا. ولا تنسنا من دعواتك.

الرابط المختصر :